استمع إلى القرآن وهو يحكى قول موسى - عليه السلام - فيقول :
{ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } .
أى : قال موسى لقومه على سبيل التشجيع والتسلية حين ضجوا وارتعبوا من تهديدات فرعون وملئه : يا قوم استعينوا بالله في كل أموركم . واصبروا على البلاء ، فهذه الأرض ليست ملكا لفرعون وملئه ، وإنما هى ملك لله رب للعالمين ، وهو - سبحانه - يورثها لمن يشاء من عباده ، وقد جرت سنته - سبحانه - أن يجعل العاقبة الطيبة لمن يخشاه ولا يخشى أحداً سواه .
بهذا الأسلوب المؤثر البليغ ، وبهذه الوصايا الحكيمة ، وصى موسى قومه بنى إسرائيل فماذا كان ردهم عليه ؟
ويدع السياق فرعون وملأه يتآمرون ، ويسدل الستار على مشهد التآمر والوعيد ، ليرفعه على مشهد خامس من مشاهد القصة ندرك منه أن فرعون قد مضى ينفذ الوعيد . . إنه مشهد النبي موسى - عليه السلام - مع قومه ، يحدثهم بقلب النبي ولغته ، ومعرفته بحقيقة ربه ؛ وبسنته وقدره ، فيوصيهم باحتمال الفتنة ، والصبر على البلية ، والاستعانة بالله عليها . ويعرفهم بحقيقة الواقع الكوني . فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده . والعاقبة لمن يتقون الله ولا يخشون أحداً سواه . . فإذا شكوا إليه أن هذا العذاب الذي يحل بهم قد حل بهم من قبل أن يأتيهم ، وهو يحل بهم كذلك بعدما جاءهم ، حيث لا تبدو له نهاية ، ولا يلوح له آخر ! أعلن لهم رجاءه في ربه أن يهلك عدوهم ، ويستخلفهم في الأرض ليبتليهم في أمانة الخلافة :
( قال موسى لقومه : استعينوا بالله واصبروا ، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين . قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا . قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تعملون ) .
إنها رؤية " النبي " لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه . ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه . ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون . .
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد ، وهو الملاذ الحصين الأمين ، وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين . وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه . وألا يعجلوا ، فهم لا يطلعون الغيب ، ولا يعلمون الخير . .
وإن الأرض لله . وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها . والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين ، إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها . . فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها !
وإن العاقبة للمتقين . . طال الزمن أم قصر . . فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير . ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد ، فيحسبونهم باقين . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الأرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : قال موسى لقومه من بني إسرائيل لما قال فرعون للملإ من قومه سنقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم : اسْتَعِينُوا بَاللّهِ على فرعون وقومه فيما ينوبكم من أمركم ، واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم من فرعون .
وكان قد تبع موسى من بني إسرائيل على ما :
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما آمنت السحرة ، اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل .
وقوله : إنّ الأرْضَ لِلّهِ يُوِرُثها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِباده يقول : إن الأرض لله ، لعلّ الله أن يُورِثَكم إن صَبَرتم على ما نالكم من مكروه في أنفسكم وأولادكم من فرعون ، واحتسبتم ذلك ، واستقمتم على السداد أرضَ فرعون وقومه ، بأن يهلكهم ويستخلفكم فيها ، فإن الله يورث أرضه من يشاء من عباده . والعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ يقول : والعاقبة المحمودة لمن اتقى الله وراقبه ، فخافه باجتناب معاصيه وأدّى فرائضه .
{ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكينا لهم . { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبت في الأمر . { والعاقبة للمتقين } وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له . وقرئ و{ العاقبة } بالنصب عطف على اسم أن واللام في { الأرض } تحتمل العهد والجنس .
لما قال فرعون سنقتل أبناءهم وتوعدهم قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل يثبتهم ويعدهم عند الله { استعينوا بالله واصبروا } وظاهر هذا الكلام كله وعد بغيب فكأن قوته تقتضي أنه من عند الله وليس في اللفظ شيء من ذلك و { الأرض } أرض الدنيا وهو الأظهر ، وقيل المراد هنا أرض الجنة ، وأما في الثانية فأرض الدنيا لا غير ، وقرأت فرقة «يورَثها » بفتح الراء ، وقرأ السبعة «يوْرِثها » ساكنة الواو خفيفة الراء مكسورة ، وروى حفص عن عاصم وهي قراءة الحسن «يورّثها » بتشديد الراء على المبالغة ، والصبر في هذه الآية يعم الانتظار الذي هو عبادة والصبر في المناجزات .