ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال الناس من الدين الواحد الذى جاء به الرسل ، وعاقبة من اتبع الرسل وعاقبة من خالفهم فقال : { وتقطعوا أَمْرَهُمْ . . . } .
والضمير فى قوله - تعالى - : { وتقطعوا } يعود للناس الذى تفرقوا فى شأن الدين شيعا وأحزابا . أى : وافترق الناس فى شأن الدين الحق فرقا متعددة ، وسنحاسبهم جميعا على أعمالهم حسابا دقيقا ، يجازى فيه المحسن خيرا ، ويعاقب فيه المسىء على إساءته .
( وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون . فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ، وإنا له كاتبون . وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ) . .
إن أمة الرسل واحدة تقوم على عقيدة واحدة وملة واحدة ، أساسها التوحيد الذي تشهد به نواميس الوجود ؛ والذي دعت إليه الرسل منذ أولى الرسالات إلى أخراها دون تبديل ولا تغيير في هذا الأصل الكبير .
إنما كانت التفصيلات والزيادات في مناهج الحياة القائمة على عقيدة التوحيد ، بقدر استعداد كل أمة ، وتطور كل جيل ؛ وبقدر نمو مدارك البشرية ونمو تجاربها ، واستعدادها لأنماط من التكاليف ومن التشريعات ؛ وبقدر حاجاتها الجديدة التي نشأت من التجارب ، ومن نمو الحياة ووسائلها وارتباطاتها جيلا بعد جيل .
ومع وحدة أمة الرسل ، ووحدة القاعدة التي تقوم عليها الرسالات . . فقد تقطع أتباعها أمرهم بينهم ، كأنما اقتطع كل منهم قطعة وذهب بها . وثار بينهم الجدل ، وكثر بينهم الخلاف ، وهاجت بينهم العداوة والبغضاء . . وقع ذلك بين أتباع الرسول الواحد حتى ليقتل بعضهم بعضا باسم العقيدة . والعقيدة واحدة ، وأمة الرسل كلها واحدة .
لقد تقطعوا أمرهم بينهم في الدنيا . ولكنهم جميعا سيرجعون إلى الله ، في الآخرة : ( كل إلينا راجعون ) فالمرجع إليه وحده ، وهو الذي يتولى حسابهم ويعلم ما كانوا عليه من هدى أو ضلال :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وتفرّق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به ودعاهم إليه ، فصاروا فيه أحزابا فهوّدت اليهود ، وتنصّرت النصارى وعُبدت الأوثان . ثم أخبر جلّ ثناؤه عما هم إليه صائرون ، وأن مرجع جميع أهل الأديان إليه متوعدا بذلك أهل الزيغ منهم والضلال ، ومعلمهم أنه لهم بالمرصاد ، وأنه مجاز جميعهم جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : وتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قال : تقطّعوا : اختلفوا في الدين .
عطف على جملة { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } [ الأنبياء : 92 ] أي أعرضوا عن قولنا . و { تقطّعوا } وضمائر الغيبة عائدة إلى مفهوم من المقام وهم الذين مِن الشأن التحدّثُ عنهم في القرآن المكي بمثل هذه المذام ، وهم المشركون . ومثل هذه الضمائر المرادِ منها المشركون كثير في القرآن . ويجوز أن تكون الضمائر عائدة إلى أمم الرسل . فعلى الوجه الأول الذي قدمناه في ضمائر الخطاب في قوله تعالى : { إن هذه أمتكم أمة واحدة } [ الأنبياء : 92 ] يكون الكلام انتقالاً من الحكاية عن الرسل إلى الحكاية عن حال أممهم في حياتهم أو الذين جاءوا بعدهم مثل اليهود والنصارى إذ نقضوا وصايا أنبيائهم . وعلى الوجه الثاني تكون ضمائر الغيبة التفاتاً .
ثم يجوز أن تكون الواو عاطفة قصة على قصة لمناسبة واضحة كما عطف نظيرها بالفاء في سورة المؤمنين . ويجوز كونها للحال ، أي أمَرنا الرسل بملة الإسلام ، وهي الملة الواحدة ، فكان من ضلال المشركين أن تقطعوا أمرهم وخالفوا الرسل وعدلوا عن دين التوحيد وهو شريعة إبراهيم أصلهم . ويؤيد هذا الوجه أن نظير هذه الآية في سورة المؤمنين جاء فيه العطف بفاء التفريع .
والتقطع : مطاوع قَطّع ، أي تفرقوا . وأسند التقطع إليهم لأنهم جعلوا أنفسهم فرقاً فعبدوا آلهة متعددة واتخذت كل قبيلة لنفسها إلهاً من الأصنام مع الله ، فشبه فعلهم ذلك بالتقطع .
وفي « جمهرة الأنساب » لابن حزم : « كان الحُصين بن عبيد الخُراعي ، وهو والد عمران بن حُصين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله : " يا حصين ما تعبد ؟ قال : عشرة آلهة ، قال : ما هم وأين هم ؟ قال : تسعة في الأرض وواحد في السماء . قال : فمَن لحاجتك ؟ قال : الذي في السماء ، قال : فمن لِطلْبَتِكَ ؟ قال : الذي في السماء ، قال : فمن لكذا ؟ فمن لكذا ؟ كُلّ ذلك يقول : الذي في السماء ، قال رسول الله : فالغ التسعة " . وفي كتاب الدعوات : من « سنن الترمذي » : أنه قال : " سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء " . والأمر : الحال . والمراد به الدين كما دل عليه قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم في } [ سورة الأنعام : 159 ] .
ولمّا ضُمن { تقطعوا } معنى توزّعوا عُدّي إلى « دينهم » فنصبَه ، والأصل : تقطعوا في دينهم وتوزعوه .
وزيادة { بينهم } لإفادة إنهم تعاونوا وتظاهروا على تقطّع أمرهم . فربّ قبيلة اتخذت صنماً لم تكن تعبُدهُ قبيلة أخرى ثم سوّلوا لجيرتهم وأحلافهم أن يعبدوه فألحقوه بآلهتهم . وهكذا حتى كان في الكعبة عدة أصنام وتماثيل لأن الكعبة مقصودة لجميع قبائل العرب . وقد روي أن عَمرو بن لُحيَ الملقب بخزاعة هو الذي نقل الأصنام إلى العرب .
وجملة { كل إلينا راجعون } مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال يجيش في نفس سامع قوله تعالى { وتقطعوا أمرهم } وهو معرفة عاقبة هذا التقطع .
وتنوين { كلٌّ } عوض عن المضاف إليه ، أي كلّهم ، أي أصحاب ضمائر الغيبة وهم المشركون . والكلام يفيد تعريضاً بالتهديد .
ودلّ على ذلك التفريع في قوله تعالى { فمن يعمل من الصالحات } [ الأنبياء : 94 ] إلى آخره .