اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡۖ كُلٌّ إِلَيۡنَا رَٰجِعُونَ} (93)

قوله :

{ وَتَقَطّعُوا } أي : اختلفوا ، والأصل{[29551]} : وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق{[29552]} الالتفات{[29553]} ، وكأنه ينفي عهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ، ويقول لهم{[29554]} : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء ، والمعنى : اختلفوا في الدين فصاروا فرقاً وأحزاباً{[29555]} .

قال الكلبي : وفرقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض . والتقطع هاهنا بمعنى : التقطيع{[29556]} .

قوله : { أَمَرَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي : تفرقوا في أمرهم .

الثاني : أنه مفعول به ، وعدى «تَقَطعُوا » لأنه بمعنى : قطعوا .

الثالث : أنه تمييز{[29557]} ، وليس بواضح معنى ، وهو معرفة ، فلا يصح من جهة صناعة البصريين{[29558]} . قال أبو البقاء : وقيل : هو تمييز أي : تقطع أمرهم{[29559]} . فجعله منقولاً من الفاعلية . و «زُبُراً »{[29560]} يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على أن تضمن ( تقطعوا ) معنى ( صيروا ) بالتقطيع{[29561]} . وإمَّا أن ينصب على الحال من المفعول ، أي : مثل زبر ، أي : كتب{[29562]} ، فإنّ الزبر جمع زَبُور كرُسُل جمع رَسُول{[29563]} .

أو يكون حالاً من الفاعل ، نقله أبو البقاء في سورة المؤمنين{[29564]} . وفيه نظر إذ لا معنى له{[29565]} ، وإنما يظهر كونه حالاً من الفاعل في قراءة «زُبَراً » بفتح الباء{[29566]} أي فرقاً . والمعنى : صيروا أمرهم زبراً أي تقطعوه في هذه الحال ، والوجهان مأخوذان من تفسير الزمخشري ، لمعنى{[29567]} الآية الكريمة ، فإن قال : والمعنى جعلوا أَمْرَ دِينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة ، ويقتسمونه ، فيصير لهذا نصيب ، ولذلك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً{[29568]} وفي الكلام التفاف من الخطاب وهو قوله : { أُمَّتُكُمْ } إلى الغيبة تشنيعاً عليهم بسوء صنيعهم{[29569]} .

وقرأ الأعمش : «زُبَراً » بفتح الباء{[29570]} جمع زُبْرَة{[29571]} ، وهي قطعة الحديد في الأصل ونصبه على الحال من ضمير الفاعل «تَقَطَّعُوا » كما تقدم{[29572]} . ولم يتعرض له أبو البقاء في هذه السورة ، وتعرض له في المؤمنين{[29573]} ، فذكر فيه الأوجه المتقدمة ، وزاد أنه قرئ «زُبْراً » بسكون الباء{[29574]} وهو بمعنى المضمومة{[29575]} .

قوله : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } توعدهم{[29576]} بأن هذه الفرق المختلفة إليه يرجعون فيحاسبهم ويجازيهم بأعمالهم ، قال عليه السلام{[29577]} : «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة ، فهلك سبعون وخلصت فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة ، وقالوا : يا رسول الله من تلك الفرقة ؟ قال : «الجماعة الجماعة الجماعة »{[29578]} وبهذا الخبر بيّن أن المراد بقوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات ، وأن قول الرسول في الناجية إنّها الجماعة ليس تعريفاً للفرقة الناجية ، إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد ، ولهذا طعن بعضهم في صحة الخبر ، فقال : إنْ أراد بالاثنين وسبعين فرقة أصول الأديان فلن يبلغ هذا القدر ، وإن أراد الفروع فإنَّها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك . وقيل أيضاً ضد ذلك ، وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة .

والجواب : قال ابن الخطيب : المراد ستفترق أُمتي في حال وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال ، ولأنه{[29579]} لا يجوز أن يزيد وينقص{[29580]} .


[29551]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/219.
[29552]:في الأصل: طريقة.
[29553]:من الخطاب في قوله: "إن هذه أمتكم واحدة" إلى الغيبة في قوله: "وتقطعوا أمرهم".
[29554]:في ب: وبقولهم.
[29555]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 21922.
[29556]:انظر البغوي 5/529.
[29557]:ذكر الأوجه الثلاثة أبو البقاء. التبيان 2/926.
[29558]:وذلك أن البصريين اشترطوا تنكير التمييز، وذهب الكوفيون وابن الطراوة إلى جواز أن يكون معرفة كقوله: وطبت النفس يا قيس عن عمرو. وقوله: علام ملئت الرعب والحرب لم تقد وقولهم: سنه زيد نفسه. وألم رأسه، وبطرت معيشتها. والبصريون أولوا ذلك على زيادة اللام، والمضافات نصبت على التشبيه بالمفعول به أو على إسقاط الجار، أي: في نفسه، وفي رأسه، وفي معيشتها انظر الهمع 1/252.
[29559]:التبيان 2/926.
[29560]:من قوله تعالى: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53].
[29561]:التبيان: 2/957.
[29562]:مشكل إعراب القرآن 2/111، التبيان 2/957.
[29563]:وذلك أن فعل بضمتين من أمثلة جمع الكثرة وهو يطرد في نوعين.
[29564]:التبيان 2/957.
[29565]:وذلك أن معنى زبر – بضم الفاء والعين – كتب.
[29566]:وهي قراءة الأعمش كما سيأتي قريبا إن شاء الله.
[29567]:في ب: ولمعنى.
[29568]:الكشاف 3/20.
[29569]:البحر المحيط 6/337.
[29570]:المختصر (99)، البحر المحيط 6/338.
[29571]:وذلك أن فعل – بضم الفاء وفتح العين – من أمثلة جمع الكثرة، وهو يطرد في نوعين: الأول: ما كان على فعلة – بضم الفاء وسكون العين – اسما نحو غرفة وغرف ومدية ومدى، فإن كان صفة نحو ضحكة لم يجمع على فعل وشذ قولهم رجل بهمة، ورجال بهم. الثاني: ما كان على فعلى – بضم الفاء وسكون العين – أنثى أفعل صفة نحو كبرى وكبر، فإن لم تكن فعلى أنثى أفعل كحبلى لم تجمع هذا الجمع، انظر شرح الأشموني 4/130.
[29572]:كما تقدم في إعراب "زبرا" بضم الزاي والباء في قراءة الجمهور.
[29573]:عند قوله تعالى: {فتقطعوا أمرهم بنيهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53].
[29574]:قراءة عبد الوهاب عن أبي عمرو. المختصر (99).
[29575]:وذلك أن (فُعُل) بضمتين جمعا يجب في غير الضرورة تسكين عينه إن كانت واوا لثقل الضمة على الواو، فتقول في جمع سوار سور، ويجوز تسكين عينه إن لم تكن واوا فتقول في جمع كتاب كتب وكتب وفي جمع زبور زُبُر وزُبْر. وعلى ذلك يكون (زبر) بسكون الباء مخفف زبر بضمها. وإن كانت عين هذا الجمع ياء كسرت الفاء عند التسكين لمناسبة الياء فتقول في جمع سيال: سُيُل وسِيَل. انظر التبيان 2/957، شرح الأشموني 4/130.
[29576]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/219.
[29577]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29578]:أخرجه ابن ماجه (فتن) 2/1322، أحمد 3/145.
[29579]:في النسختين: ولا أنه.
[29580]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/219.