هذا هو جزاء الكافرين وأما جزاء المؤمنين فقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } .
أى فسيعطيهم - سبحانه - بفضله وإحسانه بسبب إيمانهم وعملهم الصالح ، أجورهم كاملة غير منقوصة ، من ثواب جزيل ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله أكبر من كل ذلك .
ففى هذه الجملة الكريمة بشارة عظمى للمؤمنين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على طريقه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } .
أي أنه - سبحانه - عادل في أحكامه ، ويكره الظلم والظالمين الذين لا يضعون الأمور فى مواضعها .
ومن أفحش أنواع الظلم ما يقوله أهل الكتاب على عيسى - عليه السلام - فقد زعم بعضهم انه ابن الله ، وزعم فريق آخر أنه ثالث ثلاثة وافترى عليه اليهود وعلى أمه مريم البتول المفتريات التى برأهما الله - تعالى - منها .
أما الذين آمنوا فقد قالوا فى عيسى وأمه قولا كريما ، ولذلك كافأهم الله - تعالى - بما يستحقون من ثواب .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا من فضائل عيسى - عليه السلام - وبينت للناس جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين حتى يتوبوا إلى رشدهم ويسلكوا الطريق القويم .
وأما قوله : { وأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ } فإنه يعني تعالى ذكره : وأما الذين آمنوا بك يا عيسى ، يقول : صدّقوك فأقرّوا بنبوّتك ، وبما جئتهم به من الحقّ من عندي ، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به ، وعملوا بما فرضت من فرائضي على لسانك ، وشرعت من شرائعي ، وسننت من سنني .
كما : حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ } يقول : أدوا فرائضي ، فيوفيهم أجورهم ، يقول : فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملاً لا يبخسون منه شيئا ولا ينقصونه .
وأما قوله : { وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ } فإنه يعني : والله لا يحبّ من ظلم غيره حقا له ، أو وضع شيئا في غير موضعه . فنفى جلّ ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عباده ، فيجازي المسيء ممن كفر جزاء المحسنين ممن آمن به ، أو يجازي المحسن ممن آمن به واتبع أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه ، جزاء المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه ، فقال : إني لا أحبّ الظالمين ، فكيف أظلم خلقي .
وهذا القول من الله تعالى ذكره ، وإن كان خرج مخرج الخبر ، كأنه وعيد منه للكافرين به وبرسله ، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله ، لأنه أعلم الفريقين جميعا أنه لا يبخس هذا المؤمن حقه ، ولا يظلم كرامته ، فيضعها فيمن كفر به ، وخالف أمره ونهيه ، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالما .
ثم ذكر قسم الإيمان وقرن به الأعمال الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال ودعاء إليها ، وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم » بالياء على الغيبة ، والفعل مسند إلى الله تعالى ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم «فنوفيهم » بالنون ، وهي نون العظمة ، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال ، وأما نفس دخول الجنة فبرحمة الله وبفضله ، وتقدم نظير قوله { والله لا يحب الظالمين } في قوله قبل { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } [ آل عمران : 32 ]
إنّ انتفاء محبة الله الظالمين يستلزم أنه يحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلذلك يعطيهم ثوابهم وافياً .
ومعنى كونهم ظالمين أنهم ظلَموا أنفسهم بكفرهم وظلَمَ النصارى الله بأن نقصوه بإثبات ولد له وظلموا عيسى بأن نسبوه ابناً للَّه تعالى ، وظلمه اليهود بتكذيبهم إياه وأذاهم .
وعذاب الدنيا هو زوال الملك وضرب الذلة والمسكنة والجزية ، والتشريد في الأقطار ، وكونهم يعيشون تبعاً للناس ، وعذاب الآخرة هو جهنم . ومعنى { وما لهم من ناصرين } أنهم لا يجدون ناصراً يدفع عنهم ذلك وإن حاوله لم يظفَر به وأسند { فنوفيهم } إلى نون العظمة تنبيهاً على عظمة مفعول هذا الفاعل ؛ إذ العظيم يعطى عظيماً . والتقدير { فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة } بدليل مقابله في ضدّهم من قوله : { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } وتوفية الأجور في الدنيا تظهر في أمور كثيرة : منها رضا اللَّهِ عنهم ، وبَركاته معهم ، والحياة الطيبة ، وحسن الذكر . وجملة { والله لا يحب الظالمين } تذييل ، وفيها اكتفاء : أي ويحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
وقرأ الجمهور : فنوفيهم بالنون وقرأه حفص عن عاصم ، ورويس عن يعقوب ، فيوفيهم بياء الغائب على الالتفات .