قوله تعالى : { ويكلم الناس في المهد } صغيراً قبل أوان الكلام كما ذكره في سورة مريم ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب ) الآية ، حكي عن مجاهد قال : قالت مريم كنت إذا خلوت أنا وعيسى عليه السلام حدثني وحدثته ، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع .
قوله تعالى : { وكهلاً } . قال مقاتل يعني إذا اجتمعت قوته قبل أن يرفع إلى السماء ، وقال الحسين بن الفضل : وكهلاً بعد نزوله من السماء ، وقيل : أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل ، وكلامه بعد الكهولة أخبار عن الأشياء المعجزة ، وقيل : وكهلاً نبياً ، بشرها بنبوة عيسى عليه السلام ، وكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة . وقال مجاهد : وكهلاً أي حليماً ، والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن ، واستحكام العقل ، وجودة الرأي ، والتجربة .
{ وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } وهذه الجملة معطوفة على قوله { وَجِيهاً } وعطف الفعل على الاسم لتأويله به جائز والتقدير وجيها ومكلما ، والمهد اسم لمضجع الطفل أى المكان الذى يهيأ له وهو في الراضاعة . والكهل : هو الشخص الذى اجتمعت قوته وكمل شبابه . وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم .
والمراد أن عيسى - عليه السلام - يكلم الناس فى حال كونه صغيراً قبل أوان الكلام ، كما يكلمهم في حال كهولته واكتمال شبابه ، فهو - عليه السلام - يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتى الطفولة والكهولة ، وذلك إحدى معجزاته - عليه السلام - وقد حكى القرآن في سورة مريم ما تكلم به عيسى-عليه السلام-وهو طفل صغير فقال تعالى - : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } أما الصفة الرابعة من صفاته - عليه السلام - فهي قوله - تعالى - { وَمِنَ الصالحين } أى عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس . أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله - تعالى - ولا يعصونه ، قالوا : ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح ، وذلك يتناول جميع المقامات فى الدين والدنيا ، فى أفعال القلوب وفى أفعال الجوارح ، ولذا قال سليمان - عليه السلام - بعد النبوة
{ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } فلما عدد - سبحانه - صفات عيسى أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات " .
تلك هي البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم ، وتلك هي بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك ؟
{ وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ }
أما قوله : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ } فإن معناه : أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وجيها عند الله ، ومكلما الناس في المهد . ف«يكلّم » وإن كان مرفوعا ، لأنه في صورة «يَفْعَلُ » بالسلامة من العوامل فيه ، فإنه في موضع نصب ، وهو نظير قول الشاعر :
بِتّ أُعَشّيها بِعَضْبٍ باتِرِ *** يَقْصِدُ في أسْوُقِها وَجائِرِ
وأما المهد : فإنه يعني به مضجع الصبيّ في رضاعه . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ } قال : مضجع الصبيّ في رضاعه .
وأما قوله : { وَكَهْلاً } فإنه ومحتَنِكا فوق الغلومة ودون الشيخوخة ، يقال منه : رجل كهل ، وامرأة كهلة ، كما قال الراجز :
وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيّا *** أُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصّبِيّا
وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً } : ويكلم الناس طفلاً في المهد ، دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها ، وحجة له على نبوّته ، وبالغا كبيرا بعد احتناكه بوحي الله الذي يوحيه إليه ، وأمره ونهيه ، وما تقوّل عليه من كتابه . وإنما أخبر الله عزّ وجلّ عباده بذلك من أمر المسيح ، وأنه كذلك كان ، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولاً وشيوخا ، احتجاجا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى بالباطل ، وأنه كان في معاناة أشياء مولودا طفلاً ، ثم كهلاً يتقلّب في الأحداث ، ويتغير بمرور الأزمنة عليه والأيام ، من صغر إلى كبر ، ومن حال إلى حال ، وأنه لو كان كما قال الملحدون فيه ، كان ذلك غير جائز عليه ، فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نجران ، الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، واحتجّ به عليهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم ، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ } يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارا وكبارا ، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوّته ، وتعريفا للعباد مواقع قدرته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ } يقول : يكلمهم صغيرا وكبيرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً } قال : يكلمهم صغيرا وكبيرا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ } قال : الكهل : الحليم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : كلمهم صغيرا وكبيرا وكهلاً . وقال ابن جريج ، وقال مجاهد : الكهل : الحليم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً } قال : كلمهم في المَهْدِ صَبِيّا ، وكلمهم كبيرا .
وقال آخرون : معنى قوله : { وَكَهْلاً } : أنه سيكلمهم إذا ظهر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته يعني ابن زيد يقول في قوله : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً } قال : قد كلمهم عيسى في المهد ، وسيكلمهم إذا قتل الدجال ، وهو يومئذٍ كهل .
ونصب كهلاً عطفا على موضع : ويكلم الناس . وأما قوله : { وَمِنَ الصّالِحِينَ } فإنه يعني : من عدادهم وأوليائهم لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل .
{ ويكلم الناس في المهد وكهلا } أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا ، كلام الأنبياء من غير تفاوت . والمهد مصدر سمي به ما يمهد للصبي في مضجعه . وقيل إنه رفع شابا والمراد وكهلا بعد نزوله ، وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشادا إلى أنه بمعزل عن الألوهية { ومن الصالحين } حال ثالث من كلمة أو ضميرها الذي في يكلم .
قوله : { ويكلم } نائب عن حال تقديرها ومكلماً وذلك معطوف على قوله : { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، وجاء عطف الفعل المستقبل على اسم الفاعل لما بينهما من المضارعة كما جاز عطف اسم الفاعل على الفعل المستقبل في قوله الشاعر : [ الرجز ] .
بتُّ أُعشّيها بِعَضْبٍ باترِ . . . يَفْصِدُ في أسْوقِها وَجَائِرِ{[3176]}
وقوله : { في المهد } حال من الضمير في { يكلم } ، و{ كهلاً } حال معطوفة على قوله : { في المهد } ، وقوله : { من الصالحين } ، حال معطوفة على قوله { ويكلم } ، وهذه الآية إخبار من الله تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان ، و{ المهد } موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته ، وأخبر تعالى عنه أنه أيضاً يكلم الناس { كهلاً } ، وفائدة ذلك إذ كلام الكهل عرف أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة ، هذا قول الربيع وجماعة من المفسرين ، وقال ابن زيد : فائدة قوله { كهلاً } الإخبار بنزوله عند قتله الدجال كهلاً ، وقال جمهور الناس : الكهل الذي بلغ سن الكهولة ، وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير الكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب ، واختلف الناس في حد الكهوله : فقيل : الكهل ابن أربعين سنة ، وقيل : ابن خمس وثلاثين ، وقيل ، ابن ثلاث وثلاثين ، وقيل : ابن اثنين وثلاثين ، وهذا حد أولها . وأما آخرها فاثنتان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة .
والمهد شِبْه الصندوق من خشب لا غطاء له يُمهد فيه مَضجع للصبي مدة رضاعه يُوضع فيه لحفظه من السقوط .
وخُص تكليمُه بحالين : حالِ كونه في المَهد ، وحالِ كونه كهلاً ، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك لأنّ لذَينك الحالين مزيدَ اختصاص بتشريف اللَّه إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصاً لنبوءته . وأما تكليمهم كهلاً فمراد به دَعوتُه الناس إلى الشريعة . فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين .
وعطف عليه { ومن الصالحين } فالمجرور ظرف مستقرّ في موضع الحال .
والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم ، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس قال إبراهيم : { ربِّ هبْ لي من الصالحين } [ الصافات : 100 ] .
والكهل من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب ، والمرأة شهلة بالشين ، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل إلاّ أن العرب قديماً سمّوا شهلاً مثل شهل بن شيبان الملقب الفِنْد الزِّماني فدلنا ذلك على أنّ الوصف أميت . وقد كان عيسى عليه السلام حيث بعث ابن نيف وثلاثين .
وقوله : { وجيهاً } حال من { كلمة } باعتبار ما صِدْقها . { ومن المقرّبين } عطف على الحال ، { ويكلم } جملة معطوفة على الحال المفردة : لأنّ الجملة التي لها محل من الإعراب لها حكم المفرد .
وقوله : { في المهد } حال من ضمير ( يكلّم ) . وكهلاً عطف على محلّ الجار والمجرور ، لأنهما في موضع الحال ، فعطف عليهما بالنصب ، { ومن الصالحين } معطوف على { ومن المقرّبين } .