ثم ذكر الكفار ، فقال : { بل قلوبهم في غمرة } أي : في غفلة وجهالة ، { من هذا } أي : من القرآن ، { ولهم أعمال من دون ذلك } أي : للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم من دون ذلك ، يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله تعالى في قوله { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } { هم لها عاملون } لا بد لهم من أن يعملوها ، فيدخلوا بها النار ، لما سبق لهم من الشقاوة . هذا قول أكثر المفسرين . وقال قتادة : هذا ينصرف إلى المسلمين ، وأن لهم أعمالاً سوى ما عملوا من الخيرات هم لها عاملون ، والأول أظهر .
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن أحوال الكافرين ، فتوبخهم على استمرارهم فى غفلتهم ، وتصور جزعهم وجؤارهم عند ما ينزل بهم العذاب فتقول : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي . . . } .
قال الجمل : قوله - تعالى - : { بَلْ قُلُوبُهُمْ . . . } هذا رجوع لأحوال الكفار المحكية فيما سبق بقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } والجمل التى بينهما وهى قوله : { إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ } إلى قوله { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } اعتراض فى خلال الكلام المتعلق بالكفار .
أى : هذه هى أوصاف المؤمنين الصادقين ، أما الكافرون فقلوبهم فى { غَمْرَةٍ مِّنْ هذا } أى : فى جهالة وغفلة مما عليه هؤلاء المؤمنون من صفات حميدة ، ومن إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
وهؤلاء الكافرون { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } سيئة كثيرة { مِّن دُونِ ذلك } أى من غير ما ذكرناه عنهم من كون قلوبهم فى غمرة وجهالة عن الحق { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } أى : هم مستمرون عليها ، ومعتادون لفعلها مندفعون فى ارتكابها بدون وعى أو تدبر .
إنما يغفل الغافلون لأن قلوبهم في غمرة عن الحق ، لم يمسسها نوره المحيي ، لانشغالها عنه ، واندفاعها في التيه ؛ حتى تفيق على الهول ، لتلقي العذاب الأليم ، وتلقى معه التوبيخ والتحقير :
( بل قلوبهم في غمرة من هذا ، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون . حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون . لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون . قد كانت آياتي تتلى عليكم ، فكنتم على أعقابكم تنكصون ، مستكبرين به سامرا تهجرون ) . .
فعلة اندفاعهم فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة ؛ إنما العلة أن قلوبهم في غمرة ، لا ترى الحق الذي جاء به القرآن ، وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء به : ( ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هََذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يحسب هؤلاء المشركون ، من أن إمدادناهم بما نمدّهم به من مال وبنين ، بخير نسوقه بذلك إليهم والرضا منا عنهم ولكن قلوبهم في غمرة عمى عن هذا القرآن . وعنى بالغمرة : ما غمر قلوبهم فغطاها عن فهم ما أودع الله كتابه من المواعظ والعبر والحجج . وعنى بقوله : مِنْ هَذَا من القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا قال : في عَمًى من هذا القرآن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا قال : من القرآن .
وقوله : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ يقول تعالى ذكره : ولهؤلاء الكفار أعمال لا يرضاها الله من المعاصي . مِنْ دُونِ ذَلِكَ يقول : من دون أعمال أهل الإيمان بالله وأهل التقوى والخشية له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزة ، عن مجاهد : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال : الخطايا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ قال : الحق .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلك قال : خطايا من دون ذلك الحقّ .
قال : حدثنا حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ . . . الاَية ، قال : أعمال دُون الحق .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : ذكر الله الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ، ثم قال للكفار : بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا ولَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال : من دون الأعمال التي منها قوله : مِنْ خَشْيَة رَبّهِمْ مُشْفِقُونَ والذين ، والذين .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، قال : أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، قال : سألت الحسن عن قول الله : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال : أعمال لم يعملوها سيعملونها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال : لم يكن له بدّ من أن يستوفي بقية عمله ، ويَصْلَى به .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، عن الثوريّ ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قوله : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال : أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى : ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ قال : أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها .
وقوله { في غمرة } يريد في ضلال قد غمرها كما يفعل الماء الغمر بما حصل فيه ، وقوله { من هذا } ، يحتمل أن يشير إلى القرآن ، ويحتمل أن يشير{[8512]} إلى كتاب الإحصاء ، ويحتمل أن يشير إلى الأَعمال الصالحة المذكورة قبل ، أي هم في غمرة من اطراحها وتركها ويحتمل أن يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل تأويل من هذه قالته فرقة ، وقوله تعالى : { ولهم أعمال من دون ذلك } الإشارة بذلك إلى الغمرة والضلال المحيط فمعنى الآية بل هم ضالون معرضون عن الحق ولهم مع ذلك سعايات فساد فوسمهم تعالى بحالتي شر ، قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية ، وعلى هذا التأويل فالإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه ، وقالت فرقة الإشارة بذلك إلى قوله : { من هذا } فكأنه قال : لهم أعمال من دون الحق ، وقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد : إنما أخبر بقوله { ولهم أعمال } عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد يستعملونها .