تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنك إن تذرهم} على الحال التي أخبرت عنهم، أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن.
{يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} وكان الرجل منهم ينطلق بولده إلى نوح، عليه السلام، فيقول لولده: احذر هذا فإنه كذاب وإن والدي قد حذرنيه، فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه، فذلك قوله: {يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح في دعائه إياه على قومه: إنك يا ربّ إن تذر الكافرين أحياء على الأرض، ولم تهلكهم بعذاب من عندك" يُضِلّوا عِبادَكَ "الذين قد آمنوا بك، فيصدّوهم عن سبيلك، "وَلا يَلِدُوا إلاّ فاجِرا" في دينك "كَفّارا" لنعمتك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: بم علم أن أولادهم يكفرون، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ قلت: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم... ومعنى {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 26]
ثم يكمل دعاء نوح الأخير؛ وابتهاله إلى ربه في نهاية المطاف: (وقال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا. رب اغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمنا، وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا).. فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه. وأحيانا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائيا، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين. وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازا كاملا لا يبقي منهم ديارا -أي صاحب ديار- فقال: (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك).. ولفظة (عبادك) توحي بأنهم المؤمنون. فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضع بهذا المعنى. وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافية! ثم إنهم يوجدون بيئة وجوا يولد فيها الكفار، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها. وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام، وحكاها عنه القرآن: (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا).. فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل، وينشئون عادات وأوضاعا ونظما وتقاليد، ينشأ معها المواليد فجارا كفارا، كما قال نوح..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {إنك إن تذرهم يُضِلُّوا عبادك} تعليل لسؤاله أن لا يترك الله على الأرض أحداً من الكافرين يريد أنه خشي أن يضلوا بعض المؤمنين وأن يلدوا أبناء ينشؤون على كفرهم.
والأرض يجوز أن يراد بها جميع الكُرة الدنيوية، وأن يراد أرض معهودة للمتكلم والمخاطَبِ كما في قوله تعالى: {قال اجعلني على خزائن الأرض} يعني أرض مصر في سورة يوسف (55).
ويحتمل أن يكون البشر يومئذٍ منحصرين في قوم نوح، ويجوز خلافه، وعلى هذه الاحتمالات ينشأ احتمال أن يكون الطوفان قد غمر جميع الكرة الأرضية، واحتمالُ أن يكون طوفاناً قاصراً على ناحية كبيرة من عموم الأرض، والله أعلم. وقد تقدم ذلك عند تفسير قوله تعالى: {فأنجيناه والذين معه في الفلك} في سورة الأعراف (64).
وخبر {إنك} مجموع الشرط مع جوابه الواقع بعد (إنّ) لأنه إذا اجتمع مبتدأ وشرط رجح الشرط على المبتدأ فأعطي الشرطُ الجوابَ ولم يعط المبتدأ خبراً لدلالة جملة الشرط وجوابه عليه.
وعَلِم نوح أنهم لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً بأن أولادهم ينشؤون فيهم فيلقنونهم دينهم ويصدون نوحاً عن أن يرشدهم فحصل له علم بهذه القضية بدليل التجربة.
والمعنى: ولا يلدوا إلاّ من يصير فاجراً كفَّاراً عند بلوغه سن العقل.
والفاجر: المتصف بالفجور، وهو العمل الشديد الفساد.
والكَفَّار: مبالغة في الموصوف بالكفر، أي إلاّ من يجمع بين سوء الفعل وسوء الاعتقاد، قال تعالى: {أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس: 42].
وفي كلام نوح دلالة على أن المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال الآتية إذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الإِصلاحي.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
بما يملكونه من وسائل الضغط من خلال امتيازاتهم القائمة على الكثرة العددية، والقوّة المالية، ما يجعل الناس مشدودين إليهم من موقع الحاجة والخوف، فيخضعون لهم في انتماءاتهم لأنهم هم الذين يتولّون مهمَّة تنشئة أولادهم على الكفر والفجور، ويمنعون غيرهم من العمل على إرشادهم إلى الطريق المستقيم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يستدل نوح (عليه السلام) للعنه القوم فيقول: (إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجر كفّاراً)، وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح (عليه السلام) لم يكن ناتجاً عن الغضب والانتقام والحقد، بل إنّه على أساس منطقي، وأنّ نوحاً (عليه السلام) ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الأمور فيفتح فمه بالدعاء عليهم. بل إنّ دعا عليهم بعد تسعمائة وخمسين عاماً من الصبر والتألم والدعوة والعمل المضني.
ولكن كيف عرف نوح (عليه السلام) أنّهم لن يؤمنوا أبداً وأنّهم كانوا يضللون من كان على البسيطة ويلدون أولاداً فجرة وكفّاراً. قال البعض: إنّ ذلك ممّا أعطاه اللّه تعالى من الغيب، واحتُمل أنّه أخذ ذلك عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول اللّه تعالى: (وأوحى إلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من آمن). ويمكن أن يكون نوح قد توصل إلى هذه الحقيقة بالطريق الطبيعي والحسابات المتعارفة، لأنّ القوم الذين بلّغ فيهم نوح (عليه السلام) تسعمائة وخمسين عاماً بأفصح الخطب والمواعظ لا أمل في هدايتهم، ثمّ إنّ الغالبية منهم كانوا من الكفار والأثرياء وهذا ممّا كان يساعدهم على إغواء وتضليل الناس، مثل أُولئك لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً ويمكن الجمع بين هذه الاحتمالات الثّلاثة. «الفاجر»: يراد به من يرتكب ذنباً قبيحاً وشنيعاً. «كفّار»: المبالغ في الكفر. والاختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية، والآخر بالجوانب العقائدية. ويستفاد من هذه الآيات أنّ العذاب الإلهي إنّما ينزل بمقتضى الحكمة، فمن يكن فاسداً ومضللاً لأولاده ونسله لا يستحق الحياة بمقتضى الحكمة الإلهية، فينزل عليهم البلاء كالطوفان أو الصّاعقة والزلازل ليمحو ذكرهم كما غسل طوفان نوح (عليه السلام) تلك الأرض التي تلوثت بأفعال ومعتقدات تلك الأُمة الشريرة، وبما أنّ هذا القانون الإلهي لا يختصّ بزمان ومكان معينين، فإنّ العذاب الإلهي لابدّ أن ينزل إذا ما كان في هذا العصر مفسدون ولهم أولاد فجرة كفّار، لأنّها سنّة إلهية وليس فيها من تبعيض. ويمكن أن يكون المراد ب (يضلّوا عبادك) الجماعة القليلة المؤمنة التي كانت مع نوح (عليه السلام)، ولعل المراد منها عموم الناس المستضعفين الذين يتأثرون بالطواغيت.