التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا كَفَّارٗا} (27)

وقوله { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } تعليل لدعائه عليهم جميعا بالهلاك . أى : يا رب لا تترك منهم أحدا سالما ، بل أهلكهم جميعا لأنك إن تترك منهم أحدا على أرضك بدون إهلاك ، فإن هؤلاء المتروكين من دأبهم - كما رأيت منهم زمانا طويلا - إضلال عبادك عن طريق الحق .

وقوله : { وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } زيادة فى ذمهم وفى التشنيع عليهم .

والفاجر : هو المتصف بالفجور ، والملازم له ملازمة شديدة ، والفجور : هو الفعل البالغ للنهاية فى الفساد والقبح .

والكفار : هو المبالغ فى الكفر ، والجحود لنعم الله - تعالى - .

أى : إنك يا إلهى إن تتركهم بدون إهلاك ، يضلوا عبادك عن كل خير ، وهم فوق ذلك ، لن يلدوا إلا من هو مثلهم فى الفجور والكفران لأنهم قد نشَّأوا أولادهم على كراهية الحق ، وعلى محبة الباطل .

قال الجمل : فإن قيل : كيف علم نوح أن أولادهم يكفرون ؟ أجيب : بأنه لبث فيهم ألف سنة إلأ خمسين عاماً ، فعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل منهم ينطلق إليه بابنه ويقول له : احذر هذا - أى نوحا - فإنه كذاب ، وإن أبى حذرنى منه ، فيموت الكبير ، وينشأ الصغير على ذلك .

وعلى أية حال فالذى نعتقده أن نوحا - عليه السلام - ما دعا عليهم بهذا الدعاء ، وما قال فى شأنهم هذا القول - وهو واحد من أولى العزم من الرسل - إلا بعد أن يئس من إيمانهم ، وإلا بعد أن أخبره ربه : أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، وإلا بعد أن رأى منهم - بعد ألف سنة إلا خمسين عاما عاشها معها -

أنهم قوم قد استحبوا العمى على الهدى ، وأن الأبناء منهم يسيرون على طريقة الآباء فى الكفر والفجور .