وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله .
قال البخاري : حدثنا إبراهيم ، حدثنا هشام ، عن ابن جريج ، وقال عطاء ، عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد : أما وَد : فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع : فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ ، أما يُعوقُ : فكانت لهَمْدان ، وأما نسر : فكانت لحمير لآل ذي كَلاع ، وهي{[29349]} أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، عليه السلام ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم . ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ{[29350]} العلم عُبِدت{[29351]}
وكذا رُوي عن عكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن إسحاق ، نحو هذا .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذه أصنام كانت{[29352]} تعبد في زمن نوح .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى ، عن محمد بن قيس { [ يَغُوثَ ] وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } {[29353]} قال : كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صَوَرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم . فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم . {[29354]}
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شيث ، عليه السلام ، من طريق إسحاق بن بشر قال : وأخبرني جُويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال : ولد لآدم عليه السلام ، أربعون ولدا ، عشرون غلاما وعشرون جارية ، فكان ممن عاش منهم : هابيل ، وقابيل ، وصالح ، وعبد الرحمن - والذي كان سماه عبد الحارث - ووَدّ ، وكان وَدّ يقال له " شيث " ويقال له : " هبة الله " وكان إخوته قد سَوّدوه ، وولد له سَوَاع ويغوث ويعوق ونسر . {[29355]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو عُمَر الدّوريُّ ، حدثني أبو إسماعيل المؤدّب ، عن عبد الله بن مسلم بن هُرمز عن أبي حزْرَة ، عن عروة بن الزبير قال : اشتكى آدم ، عليه السلام ، وعنده بنوه : ود ، ويغوث ، [ ويعوق ]{[29356]} وسواع ، ونسر - قال وكان وَدّ أكبَرهم وأبرّهم به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا يعقوب ، عن أبي المطهر قال : ذكروا عند أبي جعفر - وهو قائم يصلي - يزيد بن المهلب ، قال : فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيدَ بن المهلب ، أما إنه قتل في أول أرض عُبد فيها غيرُ الله . قال : ثم ذكر ودًّا - قال : وكان وَدٌّ رجلا مسلما وكان محببا في قومه ، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه ، فلما رأى إبليس جَزَعهم عليه ، تشبه في صورة إنسان ، ثم قال : إني أرى جزعكم على هذا الرجل ، فهل لكم أن أصور لكم مثله ، فيكونَ في ناديكم فتذكرونه ؟ قالوا : نعم . فصُوِّر لهم مثله ، قال : ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه . فلما رأى ما بهم من ذكره قال : هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالا مثله ، فيكون{[29357]} له في بيته فتذكرونه ؟ قالوا : نعم . قال : فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله ، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به ، قال : وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به ، قال وتناسلوا ودَرَس أمر ذكرهم إياه ، حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم ، فكان أول ما عبد من غير الله : الصنم الذي سموه وَدّا .
وقالوا لا تذرن آلهتكم أي عبادتها ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ولا تذرن هؤلاء خصوصا قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركا بهم فلما طال الزمان عبدوا وقد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير وقرأ نافع ودا بالضم وقرىء يغوثا ويعوقا للتناسب ومنع صرفهما للعلمية والعجمة .
وقوله تعالى : { وقالوا لا تذرن آلهتكم } إخبار عن توصيهم بأصنامهم على العموم ، وما كان منها مشهور المكانة ، وما كان منها يختص بواحد واحد من الناس ، ثم أخذوا ينصون على المشهور من الأصنام ، وهذه الأصنام روي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا ، فلما ماتوا صورهم أهل ذلك العصر من الحجر ، وقالوا : ننظر إليها فنذكر أفعالهم فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيم الآخر لتلك الحجارة ، ثم كذلك حتى عبدت ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها ، وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب ، فكانت «ودّ » في كلب بدومة الجندل ، وكانت «سواع » في هذيل ، وكانت { يغوث } في مراد ، وكانت { يعوق } في همذان ، وكانت «نسر » في ذي الكلاع من حمير . وقرأ نافع وحده ورويت عن عاصم بضم الواو . وقرأ الباقون{[11352]} والأعمش والحسن وطلحة وشيبة وأبو جعفر : بخلاف عن الثلاثة «وَداً » بفتح الواو ، وقال الشاعر : [ البسيط ]
حياك ود فإنا لا يحل لنا . . . لهو النساء وإن الدين قد عزما{[11353]}
فيقال إنه أراد بذلك الصنم ، وقال آخر [ الحطيئة ] : [ الطويل ]
فحياك ود ما هداك لفتية . . . وخوص بأعلى ذي فضالة هجد
يروى البيتان بضم الواو ، وقرأ الأعمش : «ولا يغوثاً ويعوقاً » بالصرف ، وذلك وهم ، لأن التعريف لازم ووزن الفعل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا} وقولهم العظيم أنهم قالوا للضعفاء: {لا تذرن} عبادة {آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا} تذرن عبادة {يغوث و} لا تذرن عبادة {ويعوق و} لا تذرن عبادة {ونسرا} فهذه أسماء الآلهة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن إخبار نوح، عن قومه:"وَقالُوا لا تَذَرُنّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنّ وُدّا وَلا سُوَاعا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا". كان هؤلاء نفرا من بني آدم فيما ذُكر عن آلهة القوم التي كانوا يعبدونها. وكان من خبرهم فيما بلغنا عن محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم.
وقال آخرون: هذه أسماء أصنام قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذه المقالة منهم كانت بعد أن انقادت لهم الأتباع، واتبعتهم إلى ما دعوهم إليه من الأصنام، فقالوا بعد ذلك: {لا تذرن آلهتكم} أي لا تذرن عبادتها.
وقوله تعالى: {ولا تذرنّ ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} هي أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها.
ويحتمل أن يكون الذي بعثهم على ذلك، هو أنهم لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة رب العالمين، كما يرى هؤلاء الذين يخدمون الأجلة في الشاهد؛ لا يطمع كل واحد منهم في خدمة الملوك، ولا يرى نفسه أهلا لخدمتهم، بل يشتغل بخدمة من دونهم أولا على رجاء أن يقربه إلى الملك، فكذلك هؤلاء حسبوا أنهم لا يصلحون لخدمة رب العالمين، فكانوا إذا رأوا شيئا حسنا كانوا يظنون أن حسنه لمنزلة له عند الله، فكانوا يقبلون على عبادته رجاء أن يقربهم إلى الله، فجعلوا الأصنام على أحسن ما قدروا عليه، ثم اشتغلوا بخدمتها وعبادتها رجاء أن تقربهم إلى الله تعالى. قال عز وجل حكاية عنهم: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] وقال: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]. فجائز أن يكون هذا الحسبان، هو الذي حملهم على عبادتها وتعظيم شأنها، والله أعلم أي ذلك كان؟.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً} كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بعد قولهم {لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. قال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء، عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما وَد: فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع: فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ، أما يعوقُ: فكانت لهَمْدان، وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح، عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديراً بالقبول لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح، أكدوا قولهم: {لا تذرن آلهتكم} أي لا تتركنها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحسباً فيها، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيداً: {ولا تذرن} ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير، فناسب المقام بذاتهم بقوله: {وداً} وأعادوا النافي تأكيداً فقالوا: {ولا سواعاً} وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا: {ولا يغوث} ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع بقيد الجمع أعروا فقالوا: {ويعوق ونسراً *} معرى عن التأكيد للعلم بإرادته... وكانت عبادة هؤلاء أول عبادة الأوثان، فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه الصلاة والسلام للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه ما هو معلوم، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب.