{ كذلك نسلُكه } ندخله . { في قلوب المجرمين } والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط ، والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء . وفيه دليل على أن الله تعالى يوجد الباطل في قلوبهم . وقيل ل { الذكر } فإن الضمير الآخر في قوله : { لا يؤمنون به } له وهو خال من هذا الضمير ، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذبا غير مؤمن به ، أو بيان للجملة المتضمنه له ، وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالا من الضمير لجواز أن تكون حالا من المجرمين ، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه . { وقد خلت سنّة الأولين } أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم ، أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيدا لأهل مكة .
يحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } يعود على الاستهزاء والشرك ونحوه - وهو قول الحسن وقتادة وابن جرير وابن زيد - ويكون الضمير في { به } يعود أيضاً على ذلك بعينه ، وتكون باء السبب ، أي لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم ، ويكون قوله : { لا يؤمنون به } في موضع الحال .
ويحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن ، أي مكذباً به مردوداً مستهزأ به ندخله في قلوب المجرمين ، ويكون الضمير في { به } عائداً عليه أيضاً أي لا يصدقون به .
ويحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } عائداً على الاستهزاء والشرك ، والضمير في { به } يعود على القرآن ، فيختلف - على هذا - عود الضميرين .
والمعنى في ذلك كله ينظر بعضه إلى بعض .
و { نسلكه } معناه : ندخله ، يقال : سلكت الرجل في الأمر ، أي أدخلته فيه ، ومن هذا قول الشاعر [ عدي بن زيد ] : [ الوافر ] .
وكنت لزاز خصمك لم أعرد . . . وقد سلكوك في يوم عصيب{[7136]}
ومنه قول الآخر [ عبد مناف بن ربع الهذلي ] : [ البسيط ]
حتى إذا سلكوهم في قتايدة . . . شلاكما تطرد الجمالة الشردا{[7137]}
ومنه قول أبي وجزة يصف حمر وحش : [ البسيط ]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك . . . من نسل جوابة الآفاق مهداج{[7138]}
قال الزجاج : ويقرأ : «نُسلِكه » بضم النون وكسر اللام ، و { المجرمين } في هذه الآية يراد بهم كفار قريش ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم .
استئناف بياني ناشىء عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون } [ سورة الحجر : 11 ] فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل عليهم السلام كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ سورة الذاريات : 53 ] .
والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة { وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : 9 ] ؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر . فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقّيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر ، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل . ونظيره قوله في الآية الأخرى { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } [ سورة التوبة : 125 ] .
والتعبير بصيغة المضارع في { نسلكه } للدلالة على أن المقصود إسلاك في زمن الحال ، أي زمن نزول القرآن ، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن ، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله : { وقد خلت سنة الأولين } ، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم .
وفيه تعريض بأن ذلك إعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم .
والمشار إليه بقوله : { كذلك } هو السلك المأخوذ من { نسلكه } على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
والسلك : الإدخال . قال الأعشى :
كما سَلَك السّكّي في الباب فَيْتَق
أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين ، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين ، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه ؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به ، كما قال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ سورة التوبة : 124 125 ] .
وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهُم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة .
فضمير { نسلكه } و { به } عائدان إلى { الذكر } في قوله : { إنا نحن نزلنا الذكر } [ سورة الحجر : 9 ] أي القرآن .