والتعقيب الأول على القصة يدور حول دلالتها على صدق دعوى الوحي . فرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يتلو عليهم تفصيلات الأحداث كما يقصها شاهد العيان ؛ وما كان حاضر أحداثها ، ولكنه الوحي يقصها عليه من لدن عليم خبير ، رحمة بقومه أن يصيبهم العذاب بما هم فيه من الشرك ( فيقولوا : ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ) . .
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الإمر ، وما كنت من الشاهدين . ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر . وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ؛ ولكنا كنا مرسلين . وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ؛ ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون . ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم ، فيقولوا : ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : لولا أوتي مثلما أوتي موسى ! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ? قالوا : سحران : تظاهرا . وقالوا : إنا بكل كافرون . قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه . إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين . ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون . .
والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتا مع موسى - عليه السلام - بعد أجل محدد . . ثلاثين ليلة ، أتمها بعشر . فكانت أربعين ليلة [ على ما ذكر في سورة الأعراف ] وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح ، لتكون شريعته في بني إسرائيل . وما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شاهدا لهذا الميقات ، حتى يعلم نبأه المفصل ، كما ورد في القرآن الكريم .
يقول تعالى منبهًا على برهان نبوة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، حيث أخبر بالغيوب الماضية ، خبرًا كأن سامعه شاهد ورَاءٍ لما تقدم ، وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب ، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك ، كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها ، قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] ، أي : ما كنت حاضرًا لذلك ، ولكن الله أوحاه إليك . وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه ، وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه .
ثم قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [ هود : 49 ] وقال في آخر السورة { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ{[22331]} الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } [ هود : 100 ] ، وقال بعد ذكر قصة يوسف : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [ يوسف : 102 ] ، وقال في سورة طه : { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } [ طه : 99 ] وقال ها هنا - بعدما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها ، وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له - : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ } يعني : يا محمد ، ما كنت بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي ، { وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } لذلك ، ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ، ليجعله حجة وبرهانًا على قرون قد تطاول عهدها ، ونَسُوا حُجَج الله عليهم ، وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين .
{ وما كنت بجانب الغربي } يريد الوادي ، أو الطور فانه كان في شق الغرب من مقام موسى ، أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما كنت حاضرا . { إذ قضينا إلى موسى الأمر } إذا أوحينا إليه الأمر الذي أردنا تعريفه . { وما كنت من الشاهدين } للوحي إليه أو على الوحي إليه ، وهم السبعون المختارون الميقات ، والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الأخبار عن المغيبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله : { ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما كنت} يا محمد {بجانب} يعني: بناحية... {الغربي} بالأرض المقدسة، والغربي، يعني: غربي الجبل حيث تغرب الشمس {إذ قضينا إلى موسى الأمر} يقول: إذ عهدنا إلى موسى الرسالة إلى فرعون وقومه، {وما كنت من الشاهدين} لذلك الأمر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَمَا كُنْتَ" يا محمد بِجَانِب غربيّ الجبل "إذْ قَضَيْنا إلى مُوسَى الأمْرَ "يقول: إذ فرضنا إلى موسى الأمر فيما ألزمناه وقومه، وعهدنا إليه من عهد،
"وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ" يقول: وما كنت لذلك من الشاهدين.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الحاضرين هناك تذكرة من ذات نفسك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم تكن حاضراً فتعرف ذلك مشاهدةً، ولكنهم رأوا أن إخبارَك عنهم بحيث لا يكذبك كتابُهم، وبالضرورة عرفوا حالَكَ، وكيف أنّك لم تَعْلَمْ هذا من أحدٍ، ولا قَرَأْتَه من كتاب، لأَنّكَ أُمِّيٌّ لا تُحْسِنُ القراءة، وإذاً فليس إخبارُكَ إلا بتعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الغربي}: المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام: الوحي الذي أوحى إليه؛ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام، ولا كنت {مِنَ} جملة {الشاهدين} للوحي إليه، أو على الوحي إليه؛ وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته، [وكتابة] التوراة له في الألواح، وغير ذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى: ولم تحضر يا محمد هذه الغيوب التي تخبر بها ولكنها صارت إليك بوحينا أي فكان الواجب أن يسارع إلى الإيمان بك ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمناً زمناً فعزبت حلومهم واستحكمت جهالتهم وضلالتهم،... و {الأمر} يعني النبوءة، وقالت فرقة: يعني ما أعلمه به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل حسن يلتئم معه ما بعده من قوله: {ولكنا أنشأنا قروناً}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
بدأ أولاً بنفي شيء خاص، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين. والمعنى، والله أعلم؛ من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى، فكان عموماً بعد خصوص.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
قال السهيلي: وجانبُ الغَرْبي هُوَ جانبُ الطُّورِ الأيمنِ، فحينَ ذَكَرَ سبحانَه نداءَه لِموسى قال: {وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52] وحينَ نَفَى عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون بذلك الجانبِ قال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} والغربيُّ: هو الأيمنُ، وبين اللفظينِ في ذكر المَقَامَيْنِ ما لا يخفى في حُسْنِ العبارةِ وبديعِ الفَصَاحَةِ والبلاغةَ فإن محمداً عليه السلام لا يقالُ له: ما كنت بالجانب الأيمنِ فإنَّه لَمْ يَزَلْ بالجَانِبِ الأيْمَنِ مُذْ كانَ فِي ظَهْرِ آدم عليه السلامُ، انتهى. قال أبو بكر بن العربيِّ: قوله تعالى: {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44]. معناه: أعلمناه، وهو أحدُ ما يَرِد تَحْتَ لفظِ القَضَاءِ مراداً، انتهى من كتاب «تفسير الأفعالَ الواقعة في القرآن».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سبحانه في هذه السورة من غرائب أمر موسى عليه الصلاة والسلام وخفي أحواله ما بين، وكانت هذه الأخبار لا يقدر أهل الكتاب على إنكارها، نوعاً من الإنكار، وكان من المشهور أي اشتهار، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفها ولا سواها من غير الواحد القهار، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله حالاً من ضمير {آتينا} {وما كنت بجانب الغربي} أي الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرفة من ناحية مصر، فناداه منه العزيز الجبار، وهو ذو طوى {إذ} أي حين {قضينا} بكلامنا بما حوى من الجلال، وزاد العظمة في رفيع درجاته بالإشارة بحرف الغاية فقال: {إلى موسى الأمر} أي أمر إرساله إلى فرعون وقومه، وما نريد أن نفعل من ذلك في أوله وأثنائه وآخره مجملاً، فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله، فأنت بحيث تسمع ذلك الذي قضيناه إليه من الجانب الذي أنت فيه {وما كنت} أي بوجه من الوجوه {من الشاهدين*} لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى في ذلك المكان في أوقاته مع من شهده منه من أهل ذلك العصر من السبعين الذين اختارهم أو غيرهم ممن تبعه أو صد عنه حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أن أمر معرفتك كذلك منحصر في شهودك إياه في وقته أو تعلمك له من الخالق، أو من الخلائق الذين شاهدوه، أو أخبرهم به من شاهده، وانتفاء تعلمه من أحد من الخلائق في الشهرة بمنزلة انتفاء شهوده له في وقته، فلم يبق إلا تلقيه له من الخالق، وهو الحق الذي لا شبهة فيه عند منصف.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} شروعٌ في بيانِ أنَّ إنزالَ القرآنِ الكريمِ أيضاً واقعٌ في زمانِ شدَّة مساسِ الحاجةِ إليه واقتضاءِ الحكمةِ له البتةَ وقد صدرَ بتحقيقِ كونِه وحياً صادقاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ ببيانِ أنَّ الوقوفَ على ما فُصِّل من الأحوال لا يتسنَّى إلا بالمشاهدةِ أو التعلُّمِ ممَّن شاهدَها وحيثُ انتفى كلاهُما تبينَ أنَّه بوحيٍ من علاَّمِ الغُيُوبِ لا محالةَ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مضت قصة موسى -عليه السلام- بدلالاتها التي وضحت في الدرس الماضي. فأما في هذا الدرس فتبدأ التعقيبات عليها؛ ثم يمضي السياق في طريقه على محور السورة الأصيل، يبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة؛ ويجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير. يجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشاهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمر؛ بعد أن يعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم [صلى الله عليه وسلم] وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود. وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما بطلت شبهتهم التي حاولوا بها إحالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نُقل الكلام إلى إثبات رسالته بالحجة الدامغة؛ وذلك بما أعلمه الله به من أخبار رسالة موسى مما لا قبل له بعلمه لولا أن ذلك وحي إليه من الله تعالى. فهذا تخلص من الاعتبار بدلالة الالتزام في قصة موسى إلى الصريح من إثبات نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم. وجيء في الاستدلال بطريقة المذهب الكلامي حيث بُني الاستدلال على انتفاء كون النبي عليه الصلاة والسلام موجوداً في المكان الذي قضى الله فيه أمر الوحي إلى موسى، لينتقل منه إلى أن مثله ما كان [يعلم] ذلك إلا عن مشاهدة لأن طريق العلم بغير المشاهدة له مفقود منه ومن قومه إذ لم يكونوا أهل معرفة بأخبار الرسل كما كان أهل الكتاب، فلما انتفى طريق العلم المتعارف لأمثاله تعين أن طريق علمه هو إخبار الله تعالى إياه بخبر موسى. ولما كان قوله {وما كنت بجانب الغربي} نفياً لوجوده هناك وحضوره تعين أن المراد من الشاهدين أهل الشهادة، أي الخبر اليقين، وهم علماء بني إسرائيل لأنهم الذين أشهدهم الله على التوراة وما فيها، ألا ترى أنه ذمهم بكتمهم بعض ما تتضمنه التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} [البقرة: 140]. والمعنى ما كنت من أهل ذلك الزمن ولا ممن تلقى أخبار ذلك بالخبر اليقين المتواتر من كتبهم يومئذ فتعين أن طريق علمك بذلك وحي الله تعالى...