البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (44)

لما قص الله تعالى من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به في وقت ذبح الأبناء ، ورميه في البحر في تابوت ، ورده إلى أمّه ، وتبني فرعون له ، وإيتائه الحكم والعلم ، وقتله القبطي ، وخروجه من منشئه فاراً ، وتصاهره مع شعيب ، ورعيه لغنمه السنين الطويلة ، وعوده إلى مصر ، وإضلاله الطريق ، ومناجاة الله له ، وإظهار تلك المعجزتين العظيمتين على يديه ، وهي العصا واليد ، وأمره بالذهاب إلى فرعون ، ومحاورته معه ، وتكذيب فرعون وإهلاكه وإهلاك قومه ، والامتنان على موسى بإيتائه التوراة ؛ وأوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ذكره بإنعامه عليه بذلك ، وبما خصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } .

والأمر ، قيل : النبوّة والحكم الذي آتاه الله موسى .

وقيل : الأمر : أمر محمد عليه السلام أن يكون من أمته ، وهذا التأويل يلتئم معه ما بعده من قوله : { ولكنا أنشأنا قروناً } .

وقيل : الأمر : هلاك فرعون بالماء ، ويحمل بجانب الغربى على اليم ، وبدأ أولاً بنفي شيء خاص ، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر ، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين .

والمعنى ، والله أعلم ؛ من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به ، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى ، فكان عموماً بعد خصوص .

وبجانب الغربي : من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم ، ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه عند قوم .

فعلى القول الأول أصله بالجانب الغربي ، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي ، والترجيح بين القولين مذكور في النحو .

والغربي ، قال قتادة : غربي الجبل ، وقال الحسن : بعث الله موسى بالغرب ، وقال أبو عبيدة : حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم .

وقيل : هنا جبل غربي .

وقيل : الغربي من الوادي ، وقيل : من البحر .

قال ابن عطية : المعنى : لم تحضر يا محمد هذه الغيوب التي تخبر بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا ، أي فكان الواجب أن يسارع إلى الإيمان بك ، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمناً زمناً ، فعزبت حلومهم ، واستحكمت جهالتهم وضلالتهم .

وقال الزمخشري : الغرب : المكان الواقع في شق الغرب ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى من الطور ، وكتب الله له في الألواح .

والأمر المقضي إلى موسى : الوحي الذي أوحى إليه .

والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه ، أو على الوحي إليه ، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات ، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته ، وكتب التوراة له في الألواح ، وغير ذلك .