( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك . منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ؛ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة . إن أخذه أليم شديد . .
ومصارع القوم معروضة ، ومشاهدهم تزحم النفس والخيال ؛ منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر ، ومنهم المأخوذون بالعاصفة المدمرة ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفت به وبداره الأرض ، ومنهم من يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار . وما حل بهم من قبل في الدنيا يخايل للأنظار . . في هذا الموضع وقد بلغ السياق من القلوب والمشاعر أعماقها بتلك المصارع والمشاهد . . هنا يأتي هذا التعقيب :
( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم و حصيد ) .
( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك ) . . فما كان لك به من علم ، إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور . وذلك بعض أغراض القصص في القرآن .
( منها قائم ) . . لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران ، كبقايا عاد في الأحقاف وبقايا ثمود في الحجر . ومنها( حصيد )كالزرع المحصود . اجتث من فوق الأرض وتعرى وجهها منه ، كما حل بقوم نوح أو قوم لوط .
وما الأقوام ؟ وما العمران ؟ . . إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات . غرس منها يزكو وغرس منها خبيث ! غرس منها ينمو وغرس منها يموت !
لما ذكر تعالى خبر هؤلاء الأنبياء ، وما جرى لهم مع أممهم ، وكيف أهلك الكافرين ونَجّى المؤمنين قال : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى } أي : من أخبارها { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ } {[14900]} أي : عامر ، { وَحَصِيدٌ } أي : هالك دائر ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي : إذ أهلكناهم ، { وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم ، { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ } أي : أصنامهم وأوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها ، { مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم ، { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }{[14901]} .
قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : أي غير تخسير ، وذلك أن سبب هلاكهم ودَمَارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة وعبادتهم إياها{[14902]} فبهذا أصابهم ما أصابهم ، وخسروا بهم ، في الدنيا والآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَىَ نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذا القصص الذي ذكرناه لك في هذه السورة ، والنبأ الذي أنبأناكه فيها من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسله ، { نقصه عليك } ، فنخبرك به . { مِنْها قائمٌ } ، يقول : منها بنيانه بائد بأهله هالك ، ومنها قائم بنيانه عامر ، ومنها { حصيد } ، بنيانه خراب متداع ، قد تعفى أثره دارس ، من قولهم : زرع حصيد : إذا كان قد استؤصل قطعه ، وإنما هو محصود ، ولكنه صرف إلى فعيل ، كما قد بيّنا في نظائره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ذلكَ مِنْ أنْباءِ القُرَى نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائمٌ وحَصِيد } ، يعني بالقائم : قرى عامرة . والحصيد : قرى خامدة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { قَائمٌ وحَصِيدٌ } ، قال : قائم على عروشها ، وحصيد : مستأصلة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْها قائمٌ } : يُرى مكانه ، { وَحَصِيدٌ } : لا يرى له أثر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { مِنْها قائمٌ } ، قال : خاو على عروشه ، { وَحَصِيدٌ } : ملزق بالأرض .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن سفيان ، عن الأعمش : { مِنْها قائمٌ وَحَصِيدٌ } ، قال : خرّ بنيانه .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش : { مِنْها قائمٌ وَحَصِيدٌ } ، قال : الحصيد : ما قد خرّ بنيانه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { مِنْها قائمٌ وحَصِيدٌ } ، منها قائم يُرى أثره ، وحصيد باد لا يُرى .
وقوله : { ذلك من أنباء الغيب } الآية ، { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة ، و «الأنباء » الأخبار . و { القرى } يحتمل أن يراد بها القرى التي ذكرت في الآيات المتقدمة خاصة ، ويحتمل أن يريد القرى عامة ، أي هذه الأنباء المقصوصة عليك هو عوائد المدن إذا كفرت ، فيدخل - على هذا التأويل - فيها المدن المعاصرة ، ويجيء قوله : { منها قائم وحصيد } منها عامر ودائر ، وهذا قول ابن عباس : وعلى التأويل الأول - في أنها تلك القرى المخصوصة - يكون قوله : { قائم وحصيد } بمعنى قائم الجدرات ومتهدم لا أثر له{[6500]} ، وهذا قول قتادة وابن جريج ، والآية بجملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكة وغيرهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.