يقول تعالى ذكره : وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه { إن هو إلا وحي يوحى } يقول : ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة قوله { وما ينطق عن الهوى } أي ما ينطق عن هواه {إن هو إلا وحي يوحى } قال : يوحي الله تبارك وتعالى إلى جبرائيل ويوحي جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وعُطف على جواب القسم { ما ينطق عن الهوى } وهذا وصف كمال لذاته . والكلام الذي ينطق به هو القرآن لأنهم قالوا فيه : { إن هذا إلا إفك افتراه } [ الفرقان : 4 ] وقالوا : { أساطير الأولين اكتتبها } [ الفرقان : 5 ] وذلك ونحوه لا يعدُو أن يكون اختراعه أو اختياره عن محبة لما يُخترع وما يُختار بقطع النظر عن كونه حقاً أو باطلاً ، فإن من الشعر حكمة ، ومنه حكاية واقعات ، ومنه تخيلات ومفتريات . وكله ناشىء عن محبة الشاعر أن يقول ذلك ، فأراهم الله أن القرآن داععٍ إلى الخير .
و { ما } نافية نفت أن ينطق عن الهوى .
والهوى : ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم ، ولذلك يختلف الناس في الهوى ولا يَختلفون في الحق ، وقد يحب المرء الحق والصواب . فالمراد بالهوى إذا أطلق أنه الهوى المجرد عن الدليل .
ونفي النطق عن هَوى يقتضي نفي جنس ما يَنْطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإِرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة ، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم .
واعلم أن تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة . ولذلك ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم « أنه يمزح ولا يقول إلا حقًّا » . وهنا تم إبطال قولهم فحسن الوقف على قوله : { وما ينطق عن الهوى } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما ينطق} محمد هذا القرآن {عن الهوى} من تلقاء نفسه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه.
{إن هو إلا وحي يوحى} يقول: ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه...
وقيل: عنى بقوله {وما ينطق عن الهوى} بالهوى.
{وَمَا يَنْطِقُ عِنِ الهَوَى} يحتجّ به من لا يجيز أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحوادث من جهة اجتهاد الرأي، بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}. وليس كما ظنوا؛ لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي جاز أن ينسب موجبه وما أدّى إليه أنه عن وحي.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: وما ينطق عن هواه، وهو ينطق عن أمر الله، قاله قتادة.
الثاني: ما ينطق بالهوى والشهوة، إن هو إلا وحي يوحى بأمر ونهي من الله تعالى له...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمعنى إنه لا يتكلم في القرآن وما يؤديه إليكم عن الهوى الذي هو ميل الطبع.
ويمكن أن يقال {وما ينطق عن الهوى} دليل على أنه ما ضل وما غوى، تقديره: كيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى، وإنما يضل من يتبع الهوى، ويدل عليه قوله تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله {ما ضل} وصيغة المستقبل في قوله {وما ينطق} في غاية الحسن، أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره {وما غوى} حين اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى {وما ينطق عن الهوى} الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولا شاهدا عليكم، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا. وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة؟ نقول بلى، وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر، والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب، فقال تعالى: {ما ضل} في صغره، لأنه لا ينطق عن الهوى، وأحسن ما يقال في تفسير {الهوى} أنها المحبة، لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية، فالنفس إذا كانت دنيئة، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة، فإنها مستعملة في موضع المدح، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {فأما من طغى وءاثر الحياة الدنيا} إلى قوله {ونهى النفس عن الهوى} إشارة إلى علو مرتبة النفس.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما ينطق} أي يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في الحال ولا في الاستقبال، نطقاً ناشئاً {عن الهوى} أي من أمره كالكهان الذين يغلب كذبهم صدقهم والشعراء وغيرهم، وما تقَوَّل هذا القرآن من عند نفسه.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره، فعن على بابها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعُطف على جواب القسم {ما ينطق عن الهوى} وهذا وصف كمال لذاته. والكلام الذي ينطق به هو القرآن لأنهم قالوا فيه: {إن هذا إلا إفك افتراه} [الفرقان: 4] وقالوا: {أساطير الأولين اكتتبها} [الفرقان: 5] وذلك ونحوه لا يعدُو أن يكون اختراعه أو اختياره عن محبة لما يُخترع وما يُختار بقطع النظر عن كونه حقاً أو باطلاً، فإن من الشعر حكمة، ومنه حكاية واقعات، ومنه تخيلات ومفتريات. وكله ناشئ عن محبة الشاعر أن يقول ذلك، فأراهم الله أن القرآن داع إلى الخير. و {ما} نافية نفت أن ينطق عن الهوى. والهوى: ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم، ولذلك يختلف الناس في الهوى ولا يَختلفون في الحق، وقد يحب المرء الحق والصواب. فالمراد بالهوى إذا أطلق أنه الهوى المجرد عن الدليل. ونفي النطق عن هَوى يقتضي نفي جنس ما يَنْطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإِرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم. واعلم أن تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة. ولذلك ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم « أنه يمزح ولا يقول إلا حقًّا». وهنا تم إبطال قولهم فحسن الوقف على قوله: {وما ينطق عن الهوى}. وبين {هوى} و {الهوى} جِناس شبه التام...