وقوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم } قال العوفي عن ابن عباس : أهلكناهم .
وقال السدي : يعني : لَغَيَّرْنَا خَلْقَهم .
وقال أبو صالح : لجعلناهم حجارة .
وقال الحسن البصري ، وقتادة : لأقعدهم على أرجلهم .
ولهذا قال تعالى : { فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا } أي : إلى أمام ، { وَلا يَرْجِعُونَ } أي : إلى وراء ، بل يلزمون حالا واحدًا ، لا يتقدمون ولا يتأخرون .
وقوله : وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ على مَكانَتِهمْ يقول تعالى ذكره : ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء المشركين من أرجلهم في منازلهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ يقول : فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ، ولا أن يرجعوا وراءهم .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ قال : لو نشاء لأقعدناهُمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ : أي لأقعدناهم على أرجلهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ فلم يستطيعوا أن يتقدّموا ولا يتأخروا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولو نشاء لأهلكناهم في منازلهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ يقول : ولو نشاء أهلكناهم في مساكنهم .
{ ولو نشاء لمسخناهم } بتغيير صورهم وإبطال قواهم . { على مكانتهم } مكانهم بحيث يجمدون فيه ، وقرأ أبو بكر " مكاناتهم " . { فما استطاعوا مضيا } ذهابا . { ولا يرجعون } ولا رجوعا فوضع الفعل موضعه للفواصل ، وقيل { لا يرجعون } عن تكذيبهم ، وقرئ " مضيا " باتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالمعتى والمعتي ومضيا كصبي ، والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم .
{ مسخناهم } ظاهره تبديل خلقتهم بالقردة والخنازير ونحوه مما تقدم في بني إسرائيل وغَيرهم ، وقال الحسن وقتادة وجماعة من المفسرين : معناه لجعلناهم مقعدين مبطلين ، لا يستطيعون تصرفاً ، وقال ابن سلام هذا التوعد كله يوم القيامة ، وقرأ جمهور القراء «على مكانتهم » بإفراد ، وهو بمعنى المكان كما يقال دار ودارة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «على مكاناتهم » بالجمع ، وفي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق ، وقرأ جمهور القراء «مُضياً » بضم الميم ، وقرأ أبو حيوة «مَضياً » بفتحها .
ولما كانت { لو } تقتضي امتناعاً لامتناع فهي تقتضي معنى : لكنّا لم نشأ ذلك فتركناهم على شأنهم استدراجاً وتمييزاً بين الخبيث والطيّب . فهذا كلام موجه إلى المسلمين ومراد منه تبصرة المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على ما يلاقونه من المشركين حتى يأتي نصر الله .
فالطمس والمسخ المعلقان على الشرط الامتناعي طمس ومسخ في الدنيا لا في الآخرة . والطمس : مسخ شواهد العين بإزالة سوادها وبياضها أو اختلاطهما وهو العمى أو العَور ، ويقال : طريق مطموسة ، إذا لم تكن فيها آثار السائرين ليقْفُوَهَا السائر . وحرف الاستعلاء للدلالة على تمكن الطمس وإلا فإن طَمسَ يتعدى بنفسه .
والاستباق : افتعال من السبق والافتعال دال على التكلف والاجتهاد في الفعل أي فبادروا .
و { الصراط } : الطريق الذي يُمشى فيه ، وتعدية فعل الاستباق إليه على حذف ( إلى ) بطريقة الحذف والإِيصال ، قال الشاعر وهو من شواهد الكتاب :
أو على تضمين « استبقوا » معنى ابتدروا ، أي ابتدروا الصراط متسابقين ، أي مسرعين لِما دهمهم رجاءَ أن يصلوا إلى بيوتهم قبل أن يهلكوا فلم يبصروا الطريق . وتقدم قوله تعالى : { إنا ذهبنا نستبق } في سورة يوسف } ( 17 ) .
و« أنَّى » استفهام بمعنى ( كيف ) وهو مستعمل في الإِنكار ، أي لا يبصرون وقد طمست أعينهم ، أي لو شئنا لعجلنا لهم عقوبة في الدنيا يرتدعون بها فيقلعوا عن إشراكهم .
المسخ : تصيير جسم الإِنسان في صورة جسم من غير نوعه ، وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى : { فقلنا لهما كونوا قِرَدة خاسئين } في سورة البقرة } ( 65 ) .
وعن ابن عباس أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وعليه فلا شيء من الأشياء الموجودة الآن ببقية مسخ .
والمكانة : تأنيث المكان على تأويله بالبقعة كما قالوا : مقام ومقامة ، ودار ودارة ، أي لو نشاء لمسخنا الكافرين في الدنيا في مكانهم الذي أظهروا فيه التكذيب بالرسل فما استطاعوا انصرافاً إلى ما خرجوا إليه ولا رجوعاً إلى ما أتوا منه بل لزموا مكانهم لزوال العقل الإِنساني منهم بسبب المسخ .
وكان مقتضى المقابلة أن يقال : ولا رجوعاً ، ولكن عدل إلى { ولا يرجِعُونَ } لرعاية الفاصلة فجعل قوله { ولاَ يَرْجِعُونَ } عطفاً على جملة « ما استطاعوا » وليس عطفاً على { مُضِيّاً } لأن فعل استطاع لا ينصب الجمل . والتقدير : فما مضَوْا ولا رجعوا فجعلنا لهم العذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة وأرحنا منهم المؤمنين وتركناهم عبرة وموعظة لمن بعدهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ على مَكانَتِهمْ" يقول تعالى ذكره: ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء المشركين من أرجلهم في منازلهم، "فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ "يقول: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا أن يرجعوا وراءهم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو نشاء لأهلكناهم في منازلهم...
والمكانة والمكان بمعنى واحد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل على التحقيق: أن من قدر على الطمس أو المسخ وما ذكر من النّكس، لا يعجزه شيء عن البعث وغيره، إذ خلق الإنسان للطمس أو المسخ خاصة، لا لعاقبة تُقصد، ليس بحكمة فيكون فيه إثبات البعث أو يذكر أنه لو شاء لطمسهم، ولمسخهم، لكنه تركهم فلم يطمسهم ولم يمسخهم، ليبقوا في النعمة ليشكروا نعمه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال زيادة في التحذير والارهاب "ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم "والمسخ قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوما قردة وخنازير، والمسخ نهاية التنكيل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«على مكانتهم»... أي: لمسخناهم مسخاً يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار، ولا مضيّ ولا رجوع.
قدم الطمس والإعماء على المسخ والإعجاز؛ ليكون الكلام مدرجا، كأنه قال: إن أعماهم لم يروا الطريق الذي هم عليه، وحينئذ لا يهتدون إليه. فإن قال قائل: الأعمى قد يهتدي إلى الطريق بأمارات عقلية أو حسية غير حس البصر، كالأصوات والمشي بحس اللمس، فارتقى وقال: فلو مسخهم وسلب قوتهم بالكلية لا يهتدون إلى الصراط بوجه من الوجوه.
قدم المضي على الرجوع؛ لأن الرجوع أهون من المضي؛ لأن المضي لا ينبئ عن سلوك الطريق من قبل، وأما الرجوع فينبئ عنه، ولا شك أن سلوك طريق قد رؤى مرة أهون من سلوك طريق لم ير، فقال: لا يستطيعون مضيا ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال: {ولو نشاء} أي أن نمسخهم {لمسخناهم} أي حولناهم إلى الجمادية فأبطلنا منهم الحركة الإرادية.
ولما كان المقصود المفاجأة بهذه المصائب بياناً لأنه سبحانه لا كلفة عليه في شيء من ذلك قال: {على مكانتهم} أي المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منه شاغلاً له بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه، وهو معنى قراءة شعبة عن عاصم "مكانتهم "ودل على أن المراد التحويل إلى أحوال الجمادية بما سبب عن ذلك من قوله: {فما استطاعوا} أي بأنفسهم بنوع معالجة.
{مضيّاً} أي حركة إلى جهة من الجهات؛ ثم عطف على جملة الشرط قوله: {ولا يرجعون} أي يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر، بل ثباتها لا يمكن أحداً من الخلق رفعه ولا تغيره بنوع تغيير هذا المراد إن شاء الله، ولو قيل: ولا رجوعاً -كما قال بعضهم إنه المراد، لم يفد هذا المعنى النفيس.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
في ذلك الموطن، ما ثَمَّ إلا النار قد برزت، وليس لأحد نجاة إلا بالعبور على الصراط، وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان، الذين يمشون في نورهم، وأما هؤلاء، فليس لهم عند اللّه عهد في النجاة من النار؛ فإن شاء طمس أعينهم وأبقى حركتهم، فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه وبادروه، وإن شاء أذهب حراكهم فلم يستطيعوا التقدم ولا التأخر.
المقصود: أنهم لا يعبرونه، فلا تحصل لهم النجاة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هم في المشهد الثاني قد جمدوا فجأة في مكانهم، واستحالوا تماثيل لا تمضي ولا تعود؛ بعد أن كانوا منذ لحظة عمياناً يستبقون ويضطربون! وإنهم ليبدون في المشهدين كالدمى واللعب، في حال تثير السخرية والهزء. وقد كانوا من قبل يستخفون بالوعيد ويستهزئون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كانت {لو} تقتضي امتناعاً لامتناع فهي تقتضي معنى: لكنّا لم نشأ ذلك فتركناهم على شأنهم استدراجاً وتمييزاً بين الخبيث والطيّب. فهذا كلام موجه إلى المسلمين ومراد منه تبصرة المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على ما يلاقونه من المشركين حتى يأتي نصر الله.
فالطمس والمسخ المعلقان على الشرط الامتناعي طمس ومسخ في الدنيا لا في الآخرة.
المسخ: تصيير جسم الإِنسان في صورة جسم من غير نوعه، وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {فقلنا لهما كونوا قِرَدة خاسئين} في سورة البقرة} (65).
وعن ابن عباس أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وعليه فلا شيء من الأشياء الموجودة الآن ببقية مسخ.
والمكانة: تأنيث المكان على تأويله بالبقعة كما قالوا: مقام ومقامة، ودار ودارة، أي لو نشاء لمسخنا الكافرين في الدنيا في مكانهم الذي أظهروا فيه التكذيب بالرسل، فما استطاعوا انصرافاً إلى ما خرجوا إليه ولا رجوعاً إلى ما أتوا منه، بل لزموا مكانهم لزوال العقل الإِنساني منهم بسبب المسخ.
وكان مقتضى المقابلة أن يقال: ولا رجوعاً، ولكن عدل إلى {ولا يرجِعُونَ} لرعاية الفاصلة فجعل قوله {ولاَ يَرْجِعُونَ} عطفاً على جملة « ما استطاعوا» وليس عطفاً على {مُضِيّاً}؛ لأن فعل استطاع لا ينصب الجمل.
والتقدير: فما مضَوْا ولا رجعوا فجعلنا لهم العذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة، وأرحنا منهم المؤمنين وتركناهم عبرة وموعظة لمن بعدهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
طبقاً للتفسير الذي قبل به أغلب المفسّرين الإسلاميين، فإنّ الآيتين أعلاه، تتحدّثان عن عذاب الدنيا، وعن تهديد الكفّار والمجرمين بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر على تعريضهم لمثل هذا العذاب في الدنيا، ولكن للطفه ورحمته فإنّه يمتنع عن ذلك، فقد ينتبه هؤلاء المعاندين ويرجعوا عن غيّهم إلى طريق الحقّ.
ولكن يوجد احتمال آخر أيضاً، وهو أنّ الآيات تشير إلى العقوبات الإلهيّة في يوم القيامة لا في الدنيا، وفي الحقيقة فهو تعالى بعد أن أشار إلى «الختم على أفواههم» في الآية السابقة، يشير هنا إلى نوعين آخرين من العقوبات التي لو شاء لأجراها عليهم:
الأوّل: الطمس على عيونهم بحيث لا يمكنهم رؤية «الصراط» أي طريق الجنّة.
الثاني: أنّ هؤلاء الأفراد بعد أن كانوا فاقدين للحركة في طريق السعادة فإنّهم يتحوّلون إلى تماثيل ميتة في ذلك اليوم، ويظلّون حيارى في مشهد المحشر، وليس لهم طريق للتقدّم أو للتراجع.
إنّ تناسب الآيات طبعاً يؤيّد هذا التّفسير الأخير، وإن كان أكثر المفسّرين قد اتّفقوا على قبول التّفسير السابق.