وما تكاد هذه الكلمات تقال ؛ وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار ، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة . . فتدور دورتها المدوية المجلجلة :
( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) . .
وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة . تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة : ( ففتحنا )فيحس القارئ يد الجبار تفتح ( أبواب السماء ) . . بهذا اللفظ وبهذا الجمع . ( بماء منهمر ) . . غزير متوال .
بماء منهمر : منصبٍّ بشدة وغزارة .
11- { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ } .
لقد انصبّ عليهم ماء السحاب وابلا منهمرا ، بشدّة وغزارة ، وقد كانوا في شوق إلى المطر لمدة طويلة ، فكان المطر الشديد الوابل المتتابع ، سببا في عذابهم فقد نزل بكثرة فائقة من السماء ، كما يقال في المطر الوابل : جرت ميازيب السماء ، وفتحت أبواب القرب ، كناية عن كثرة انصباب الماء من السماء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأجابه الله تعالى: {ففتحنا أبواب السماء}... {بماء منهمر} يعني منصب كثير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فَفَتَحْنا لما دعانا نوح مستغيثا بنا على قومه" أبْوَابَ السّماءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ "وهو المندفق... عن سفيان "بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ" قال: ينصبّ انصبابا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال قوم من أهل التأويل: الأبواب حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء. وقال جمهور المفسرين: بل هو مجاز وتشبيه، لأن المطر كثر كأنه من أبواب. والمنهمر: الشديد الوقوع الغزير.
المسألة الأولى: المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز؟ نقول فيه قولان؛
أحدهما: حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه.
وثانيهما: هو على طريق الاستعارة، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب، وعلى هذا فهو كما يقول القائل: في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل: فتحت أبواب السماء، ولا شك أن المطر من فوق.
المسألة الثالثة: الباء في قوله: {بماء منهمر} ما وجهه وكيف موقعه؟ نقول فيه وجهان؛ أحدهما: كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول: يفتح الله لك بخير، أي يقدر خيرا يأتي، ويفتح الباب غاية الهطلان.
قوله تعالى: {ففتحنا} بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله، كما قال تعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين، إن كانت إلا صيحة واحدة} بيانا لكمال القدرة...
{بماء منهمر} والانهمار الانسكاب والانصباب صبا شديدا، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمنهمر: المنصب، أي المصبوب يقال: عمرَ الماء إذا صبه، أي نازل بقوة. فأرسلنا عليهم الطوفان بهذه الكيفية المحكمة السريعة.
ولما استجاب له سبحانه ، سبب عن دعائه قوله ، عائداً إلى مظهر العظمة إعلاماً بمزيد الغضب الموجب دائماً للاستيعاب بالغضب : { ففتحنا } أي تسبب عن دعائه أنا فتحنا{[61758]} فتحاً يليق بعظمتنا { أبواب السماء } كلها في جميع الأقطار ، وعبر بجمع القلة عن الكثرة لأن عادة العرب أن تستعيره لها وهو أرشق وأشهر من بيبان ، وسياق العظمة يأبى كونه لغيرها . ولما كان المراد تهويل أمر الماء بذكر حاله التي كان عليها حتى كأن المحدث بذلك شاهده جعلت كأنه آية فتحت بها السماء فقال : { بماء منهمر * } أي منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب عظماً وكثرة ، ولذلك لم يقل : بمطر ، لأنه خارج عن تلك العادة ، واستمر ذلك أربعين يوماً
قوله : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } استجاب الله دعاء نوح – عليه السلام- وأمره ربه أن يصنع السفينة لينجو على متنها هو والذين آمنوا معه وهم قلة . ثم أمر الله السماء أن تمطر ، فنزل منها الماء غزيرا منسكبا . فانهمر ، أي نزل منسكبا دفاقا . والمنهمر ، المتصبب . والهمرة ، الدفعة من المطر . وانهمر الماء أي انسكب وسال{[4400]} .