{ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( 62 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 63 ) مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 65 ) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( 66 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 67 ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( 68 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 69 ) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( 70 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 71 ) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( 72 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 73 ) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ ( 74 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 75 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ( 76 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 77 ) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( 78 ) }
ومن دونهما : ومن ورائهما وأقل منهما .
62 ، 63 ، 64 ، 65- { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
تحكي الآيات نعيما آخر لصنف آخر أقل درجة من السابقين ، فهاتان الجنتان لأصحاب اليمين ، والجنتان السابقتان للسابقين .
وهناك جنتان أخريان دو السابقتين في المرتبة والفضيلة .
وفي الحديث : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما " ، فالأوليان للمقربين ، والأخريان لأصحاب اليمين .
{ ومن دونهما جنتان } : أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه .
ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى وإفضاله على عباده فقال { ومن دونهما جنتان } أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه من السابقين وهاتان لمن خاف مقام ربه من أصحاب اليمين وقد يكون العكس كذلك والله أعلم بأي الجنتين أفضل ، اللهم ارزقنا ما شئت منهما فإنا بعطائك راضون ولك حامدون شاكرون
قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان* ومن دونهما جنتان } أي : من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان . قال ابن عباس : دونهما في الدرج . وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل . وقال أبو موسى الأشعري : جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين . وقال ابن جريج : هن أربع جنات ، جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين { فيهما فاكهة ونخل ورمان } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا علي بن عبد الله ، عن عبد العزيز ابن عبد الصمد ، عن أبي عمران ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " . وقال الكسائي : ومن دونهما يعني أمامهما وقبلهما ، يدل عليه قول الضحاك : الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والأخريان من ياقوت .
قوله تعالى : " ومن دونهما جنتان " أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان . قال ابن عباس : ومن دونهما في الدرج . ابن زيد : ومن دونهما في الفضل . ابن عباس : والجنات لمن خاف مقام ربه ، فيكون في الأوليين النخل والشجر ، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط . الماوردي : ويحتمل أن يكون " ومن دونهما جنتان " لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته ، إحداهما للحور العين ، والأخرى للولدان المخلدين ، ليتميز بهما الذكور عن الإناث . وقال ابن جريج : هي أربع : جنتان منها للسابقين المقربين " فيهما من كل فاكهة زوجان " [ الرحمن : 52 ] و " عينان تجريان " [ الرحمن : 50 ] ، وجنتان لأصحاب اليمين " فيهما فاكهة ونخل ورمان " [ الرحمن : 68 ] و " فيهما عينان نضاختان " [ الرحمن : 66 ] . وقال ابن زيد : إن الأولين من ذهب للمقربين ، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين .
قلت : إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبدالله الحسن بن الحسين في كتاب " منهاج الدين " له ، واحتج بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس " ولمن خاف مقام ربه جنتان " [ الرحمن : 46 ] إلى قوله : " مدهامتان " قال : تلك للمقربين ، وهاتان لأصحاب اليمين . وعن أبي موسى الأشعري نحوه . ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما فقال في الأوليين : " فيهما عينان تجريان " [ الرحمن : 50 ] وفي الأخريين : " فيهما عينان نضاختان " [ الرحمن : 66 ] أي فوارتان ولكنهما ليستا كالجاريين لأن النضخ دون الجري . وقال في الأوليين : " فيهما من كل فاكهة زوجان " [ الرحمن : 52 ] فعم ولم يخص . وفي الأخريين : " فيهما فاكهة ونخل ورمان " [ الرحمن : 68 ] ولم يقل كل فاكهة ، وقال في الأوليين : " متكئين على فرش بطائنها من إستبرق " [ الرحمن : 54 ] وهو الديباج ، وفي الأخريين " متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان " [ الرحمن : 76 ] والعبقري الوشي ، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي ، والرفرف كسر الخباء ، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء . وقال في الأوليين في صفة الحور : " كأنهن الياقوت والمرجان " [ الرحمن : 58 ] ، وفي الأخريين " فيهن خيرات حسان " [ الرحمن : 70 ] وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان . وقال في الأوليين : " ذواتا أفنان " [ الرحمن : 48 ] وفي الأخريين " مدهامتان " أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان ، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان ، والأخريين بالخضرة وحدها ، وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدنا بقوله " ومن دونهما جنتان " ولعل ما لم يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر . فإن قيل : كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين ؟ قيل : الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب ، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى ، والجنتان الأخريان لمن قصرت حال في الخوف من الله تعالى . ومذهب الضحاك أن الجنتين الأوليين من ذهب وفضة ، والأخريين من ياقوت وزمرد وهما أفضل من الأوليين ، وقوله : " ومن دونهما جنتان " أي من أمامهما ومن قبلهما . وإلى هذا القول ذهب أبو عبدالله الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " فقال : ومعنى " ومن دونهما جنتان " أي دون هذا إلى العرش ، أي أقرب وأدنى إلى العرش ، وأخذ يفضلهما على الأوليين بما سنذكره عنه . وقال مقاتل : الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم ، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى .
{ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } المعنى : أن جزاء من أحسن بطاعة الله أن يحسن الله إليه بالجنة ، ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، وذلك هو مقام المراقبة والمشاهدة فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين ويقوي هذا أنه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العلي ، وجعل جنتين دونها لمن كان دون ذلك ، فالجنتان المذكورتان أولا للسابقين ، والجنتان المذكورتان ثانيا بعد ذلك لأصحاب اليمين حسبما ورد في الواقعة ، وانظر كيف جعل أوصاف هاتين الجنتين ، أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما فقال هنا : { عينان تجريان } وقال في الآخرتين .
{ عينان نضاختان } ، والجري أشد من النضخ وقال هنالك .
{ من كل فاكهة زوجان } ، وقال هنا { فاكهة ونخل ورمان } ، وكذلك صفة الحور هنا أبلغ من صفتها هنالك وكذلك صفة البسط ويفسر ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جنتان من ذهب آنيتهما وكل ما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وكل ما فيهما " .
ولما كان قد علم مما ذكر أول هذا الكلام من الخوف مع ذكر وصف الإكرام ، وآخره من ذكر الإحسان أن هذا الفريق محسنون ، وكان من المعلوم أن العاملين طبقات ، وأن كل طبقة أجرها على مقدار أعمالها ، اقتضى الحال بيان ما أعد لمن دونهم : { ومن دونهما } أي من أدنى مكان ، رتبة مما تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين { جنتان * } أي لكل واحد لمن دون هؤلاء المحسنين{[62021]} من الخائفين وهم أصحاب اليمين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : دونهما في الدرج ، وجعل ابن برجان الأربع موزعة بين الكل ، وأن تخصيص هذه العدة إشارة إلى أنها تكون جامعة لما في فصول الدنيا الأربعة : الشتاء والربيع والصيف والخريف ، وفسر بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " جنتان من ذهب أوتيتهما وما فيهما وجنتان من فضة أوتيتهما وما فيهما " ثم جوز أن يكون المراد بالدون الأدنى إلى الإنسان ، وهو البرزخ ، فتكون هاتان لأهل البرزخ كما كان { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } من{[62022]} عذاب القبر