( فألقي السحرة سجدا . قالوا : آمنا برب هارون وموسى ) . .
إنها اللمسة تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله . وتصادف " الزر الصغير " فينبعث النور ويشرق الظلام . إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلى الإيمان .
ولكن أنى للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف ? أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب ? وهم قد نسوا لطول ما طغوا وبغوا ، ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم ، نسوا أن الله هو مقلب القلوب ؛ وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً قَالُوَاْ آمَنّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَىَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَآ أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ } .
وفي هذا الكلام متروك قد استغنى بدلالة ما ترك عليه هو : فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا " فأُلْقيَ السّحَرَةُ سُجّدا قالُوا آمَنّا بِرَبّ هارُونَ وَمُوسَى " . وذكر أن موسى لما ألقى ما في يده تحوّل ثعبانا ، فالتقم كلّ ما كانت السحرة ألقته من الحبال والعصيّ . ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : لما اجتمعوا وألقوا ما في أيديهم من السحر ، " خيل إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنّها تَسْعَى فأوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنا لا تَخَفْ إنّكَ أنْتَ الأعْلَى وألْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . قال : فتحت فما لها مثل الدّحْل ، ثم وضعت مشفرها على الأرض ورفعت الاَخر ، ثم استوعبت كلّ شيء ألقوه من السحر ، ثم جاء إليها فقبض عليها ، فإذا هي عصا ، فخرّ السحرة سجدا " قالُواآمَنّا بِرَبّ هارُونَ وَموسَى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ إنّهُ لَكَبِيرُكُمْ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وَأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ " قال : فكان أوّل من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون " وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ " قال : فكان أوّل من صلب في جذوع النخل فرعون .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " فأوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى " فأوحى الله إليه لا تَخَفْ وألْقِ ما في يَمِينَكَ تَلْقَف ما يأفِكُونَ فألْقَى عَصَاهُ فأكلت كلّ حية لهم فلما رأوا ذلك سجدوا وقَالُوا آمَنّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ هَارُونَ وَمُوسَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه " فأوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خيفَةً مُوسَى " لما رأى ما ألقوا من الحبال والعصيّ وخيل إليه أنها تسعى ، وقال : والله إن كانت لعصيا في أيديهم ، ولقد عادت حيات ، وما تعدو عصاي هذه ، أو كما حدّث نفسه ، فأوحى الله إليه أن ألْقِ ما في يَمِينكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إنّمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السّاحرِ حَيْثُ أتَى وفرح موسى فألقى عصاه من يده ، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى ، فجعلت تلقفها ، تبتلعها حية حية ، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجدا ، قالوا : آمنا بربّ هارون وموسى ، لو كان هذا سحر ما غلبنا .
{ فألقي السحرة سجدا } أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر وإنما هو آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته ، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله توبة عما صنعوا وإعتابا وتعظيما لما رأوا . { قالوا آمنا برب هارون وموسى } قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية ، أو لأن فرعون ربى موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع . روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها .
الفاء عاطفة على محذوف يدلّ عليه قوله { وألق ما في يمينك } [ طه : 69 ] . والتقدير : فألقى فتلقفت ما صنعوا ، كقوله تعالى : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] .
والإلقاء : الطرح على الأرض . وأسند الفعل إلى المجهول لأنّهم لا ملقي لهم إلاّ أنفسهم ، فكأنّه قيل : فألقوا أنفسهم سُجّداً ، فإنّ سجودهم كان إعلاناً باعترافهم أنّ موسى مرسل من الله . ويجوز أن يكون سجودهم تعظيماً لله تعالى .
ويجوز أن يكون دلالة على تغلب موسى عليهم فسجدوا تعظيماً له .
ويجوز أن يريدوا به تعظيم فرعون ، جعلوه مقدمة لقولهم { ءَامَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } حذراً من بطشه .
وجملة { قَالُوا } يصح أن تَكون في موضع الحال ، أي ألقَوْا قائلين . ويصح أن تكون بدل اشتمال من جملة { فَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } فإن سجودهم اشتمل على إيمانهم ، وأن تكون مستأنفة ابتدائية لافتتاح المحاورة بينهم وبين فرعون .
وإنما آمنوا بالله حينئذ لأنّهم أيقنوا أن ما جرى على يد موسى ليس من جنس السحر لأنّهم أيمّة السحر فعلموا أنّه آية من عند الله .
وتعبيرهم عن الرب بطريق الإضافة إلى هارون وموسى لأن الله لم يكن يعرف بينهم يومئذ إلا بهذه النسبة لأن لهم أرباباً يعبدونها ويعبدها فرعون .
وتقديم هارون على موسى هنا وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف ( 121 ، 122 ) : { قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره ، لأنّ الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه ، فهم عرفوا الله بأنه ربّ هذين الرجلين ؛ فحكي كلامهم بما يدلّ على ذلك ؛ ألا ترى أنه حكي في سورة الأعراف ( 121 ) قول السحرة { قالوا آمنا برب العالمين } ، ولم يحك ذلك هنا ، لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكي وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة .
ووجه تقديم هارون هنا الرعاية على الفاصلة ، فالتقديم وقع في الحكاية لا في المحكي ، إذ وقع في الآية الأخرى { قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } [ الشعراء : 47 ، 48 ] . ويجوز أن يكون تقديم هارون في هذه الآية من حكاية قول السحرة ، فيكون صدر منهم قولان ، قدموا في أحدهما اسم هارون اعتباراً بكبر سنّه ، وقدموا اسم موسى في القول الآخر اعتباراً بفضله على هارون بالرسالة وكلام الله تعالى ، فاختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.