وحين يصل السياق إلى هذا الحد ينهي الجدل مع أهل الكتاب ويغفل شأنهم كله . ويتجه إلى الجماعة المسلمة بالخطاب ، والتحذير ، والتنبيه والتوجيه . وبيان خصائص الجماعة المسلمة وقواعد منهجها وتصورها وحياتها ؛ وطبيعة وسائلها لتحقيق المنهج الذي ناطه الله بها :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) . .
لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشىء في الأرض طريقها على منهج الله وحده ، متميزة متفردة ظاهرة . لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله ؛ لتؤدي في حياة البشر دورا خاصا لا ينهض به سواها . لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض ، وتحقيقه في صورة عملية ، ذات معالم منظورة ، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال ، ومشاعر وأخلاق ، وأوضاع وارتباطات .
وهي لا تحقق غاية وجودها ، ولا تستقيم على طريقها ، ولا تنشىء في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة ، إلا إذا تلقت من الله وحده ، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده . قيادة البشرية . . لا التلقي من أحد من البشر ، ولا اتباع أحد من البشر ، ولا طاعة أحد من البشر . . إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف . .
هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات . وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة . . وهنا موضع من هذه المواضع ، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب ، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة . . ولكنه ليس محدودا بحدود هذه المناسبة ، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة ، في كل جيل من أجيالها . لأنه هو قاعدة حياتها ، بل قاعدة وجودها .
لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية . فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله ، ولتقودها بمنهج الله ؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن ، وليس لوجودها - في هذه الحال - من غاية ؟ !
لقد وجدت للقيادة : قيادة التصور الصحيح . والاعتقاد الصحيح . والشعور الصحيح . والخلق الصحيح . والنظام الصحيح . والتنظيم الصحيح . . وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول ، وأن تتفتح ، وأن تتعرف إلى هذا الكون ، وأن تعرف أسراره ، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته . . ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله وتسيطر على هذا كله ، وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار ، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات . . ينبغي أن تكون للإيمان ، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة ، مهتدية فيها بتوجيه الله . لا بتوجيه أحد من عبيد الله .
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها ، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها . ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب ، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص .
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) . .
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم ، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم ، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية ، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة . كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعدا في طريق النماء والارتقاء . وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس ، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب .
هذا من جانب المسلمين . فأما من الجانب الآخر ، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها . فهذه العقيدة هي صخرة النجاة ؛ وخط الدفاع ، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة . وأعداؤه يعرفون هذا جيدا . يعرفونه قديما ويعرفونه حديثا ، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة ، ومن قوة كذلك وعدة . وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين . وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم ، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، أو ممن ينتسبون - زورا - للإسلام ، جنودا مجندة ، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار ، ولتصد الناس عنها ، ولتزين لهم مناهج غير منهجها ، وأوضاعا غير أوضاعها ، وقيادة غير قيادتها . .
فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعا واتباعا ، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم ، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال .
ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين )
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك ، فقال بعضهم : عنى بقوله : { يا أيّها الّذِين آمَنُوا } الأوس والخزرج ، وبالذين أوتوا الكتاب : شاس بن قيس اليهودي ، على ما قد ذكرنا قبل من خبره عن زيد بن أسلم .
وقال آخرون : فيمن عُني بالذين آمنوا ، مثل قول زيد بن أسلم ، غير أنهم قالوا : الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى هموا بالقتال ووجدوا اليهودي به مغمزا فيهم ثعلبة بن عنمة الأنصاري . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } قال : نزلت في ثعلبة بن عنمة الأنصاري ، كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام ، فمشى بينهم يهودي من قينقاع ، فحمل بَعْضَهُم على بعضٍ حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاح فيقاتلوا ، فأنزل الله عز وجل : { إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } يقول : إن حملتم السلاح فاقتتلتم كفرتم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج عن مجاهد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ } قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين الأوس والخزرج ، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن ، حتى منّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم ، وألّف بينهم بالإسلام قال : فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ، ومعهما يهودي جالس ، فلم يزل يذكّرهما أيامهما والعداوة التي كانت بينهم ، حتى استبّا ، ثم اقتتلا . قال : فنادى هذا قومه ، وهذا قومه ، فخرجوا بالسلاح ، وصفّ بعضهم لبعض . قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم ، حتى رجعوا ووضعوا السلاح ، فأنزل الله عزّ وجلّ القرآن في ذلك : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ } إلى قوله : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فتأويل الاَية : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله ، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل ، فتقلبوا منهم ما يأمرونكم به ، يضلوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين¹ يقول : جاحدين لما قد آمنتم به وصدّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم . فنهاهم جلّ ثناؤه أن ينتصحوهم ، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة ، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غلّ وغشّ وحسد وبغض . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } : قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون ، وحذركم وأنبأكم يضلالتهم ، فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنصحوهم على أنفسكم ، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال . كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم ، وقتلوا رسلهم ، وتحيروا في دينهم ، وعجزوا عن أنفسهم ؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة !
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون ، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح ، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال " أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم " فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما خاطبهم الله بنفسه بعدما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم ، وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم .
إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين ، وقد تفضّل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال : { قل يا أهل الكتاب } [ آل عمران : 98 ] ولم يقل : قل يأيُّها الّذين آمنوا .
والفريق : الجماعة من النَّاس ، وأشار به هنا إلى فريق من اليهود وهم شَاس بن قَيس وأصحابه ، أو أراد شاساً وحده ، وجعله فريقاً كما جعل أبا سفيان ناساً قي قوله : « إنّ النّاس قد جمعوا لكم » وسياق الآية مؤذن بأنَّها جرت على حادثة حدثتْ وأنّ لنزولها سبباً . وسبب نزول هذه الآية : أنّ الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية قد تخاذلوا وتحاربوا حتَّى تفانوا ، وكانت بينهم حروب وآخرها يوم بُعاث الّتي انتهت قبل الهجرة بثلاث سنين ، فلمَّا اجتمعوا على الإسلام زالت تلك الأحقاد من بينهم وأصبحوا عُدّة للإسلام ، فساء ذلك يهودَ يثرب فقام شاس بن قيس اليهودي ، وهو شيخ قديم منهم ، فجلس إلى الأوس والخزرج ، أو أرسل إليهم من جلس إليهم يذكِّرهم حروب بُعاث ، فكادوا أن يقتتلوا ، ونادى كُلّ فريق : يا للأوس ويا للخزرج وأخذوا السلاح ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينهم وقال : أتَدْعُون الجاهليةَ وأنا بين أظهركم ؟ وفي رواية : أبدعوى الجاهلية ؟ أي أتدعون بدعوى الجاهلية وقرأ هذه الآية ، فما فرغ منها حتَّى ألقوا السِّلاح ، وعانق بعضهم بعضاً ، قال جابر بن عبد الله : ما كان طالع أكره إلينا من طلوع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا أصلح الله بيننا ما كان شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت يوماً أقبحَ ولا أوْحَش أوّلا وأحسنَ آخراً من ذلك اليوم .
وأصل الردّ الصّرف والإرجاع قال تعالى : { ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] وهو هنا مستعار لتغيّر الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشَّاعر ، فيما أنشده أهل اللّغة :
فَرَدّ شُعُورَهُنّ السُّود بِيضا *** وَرَدّ وُجُوهَهُنّ البِيض سُودا
و { كافرين } مفعوله الثَّاني ، وقوله { بعد إيمانكم } تأكيد لما أفاده قوله { يردّوكم } والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون .