وبينما المجرم في هذه الحال ، يتمنى ذلك المحال ، يسمع ما ييئس ويقنط من كل بارقة من أمل ، أو كل حديث خادع من النفس . كما يسمع الملأ جميعا حقيقة الموقف وما يجري فيه :
كلا ! إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى . .
إنه مشهد تطير له النفس شعاعا ، بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله . . ( كلا ! )في ردع عن تلك الأماني المستحيلة في الافتداء بالبنين والزوج والأخ والعشيرة ومن في الأرض جميعا . . ( كلا ! إنها لظى )نار تتلظى وتتحرق( نزاعة للشوى )تنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا . . وهي غول مفزعة . ذات نفس حية تشارك في الهول والعذاب عن إرادة وقصد : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى . . تدعوه كما كان يدعى من قبل إلى الهدى فيدبر ويتولى . ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم لا يملك أن يدبر ويتولى ! ولقد كان من قبل مشغولا عن الدعوة بجمع المال وحفظه في الأوعية ! فأما اليوم فالدعوة من جهنم لا يملك أن يلهو عنها . ولا يملك أن يفتدي بما في الأرض كله منها !
والتوكيد في هذه السورة والسورة السابقة قبلها وفي سورة القلم كذلك على منع الخير ، وعدم الحض على طعام المسكين ، وجمع المال في الأوعية إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية . . هذا التوكيد يدل على أن الدعوة كانت تواجه في مكة حالات خاصة يجتمع فيها البخل والحرص والجشع إلى الكفر والتكذيب والضلالة . مما اقتضى تكرار الإشارة إلى هذا الأمر ، والتخويف من عاقبته ، بوصفه من موجبات العذاب بعد الكفر والشرك بالله .
وفي هذه السورة إشارات أخرى تفيد هذا المعنى ، وتؤكد ملامح البيئة المكية التي كانت تواجهها الدعوة . فقد كانت بيئة مشغولة بجمع المال من التجارة ومن الربا . وكان كبراء قريش هم أصحاب هذه المتاجر ، وأصحاب القوافل في رحلتي الشتاء والصيف . وكان هنالك تكالب على الثراء ، وشح النفوس يجعل الفقراء محرومون ، واليتامى مضيعين . ومن ثم تكرر الأمر في هذا الشأن وتكرر التحذير . وظل القرآن يعالج هذا الجشع وهذا الحرص ؛ ويخوض هذه المعركة مع الجشع والحرص في أغوار النفس ودروبها قبل الفتح وبعده على السواء . مما هو ظاهر لمن يتتبع التحذير من الربا ، ومن أكل أموال الناس بالباطل ، ومن أكل أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ! ومن الجور على اليتيمات واحتجازهن للزواج الجائر رغبة في أموالهن ! ومن نهر السائل ، وقهر اليتيم ، ومن حرمان المساكين . . . إلى آخر هذه الحملات المتتابعة العنيفة الدالة على الكثير من ملامح البيئة . فضلا على أنها توجيهات دائمة لعلاج النفس الإنسانية في كل بيئة . وحب المال ، والحرص عليه ، وشح النفس به ، والرغبة في احتجانه ، آفة تساور النفوس مساورة عنيفة ، وتحتاج للانطلاق من إسارها والتخلص من أوهاقها ، والتحرر من ربقتها ، إلى معارك متلاحقة ، وإلى علاج طويل !
وقوله : نَزّاعةً للشّوَى يقول تعالى ذكره مخبرا عن لظَى إنها تنزع جلدة الرأس وأطراف البدن والشّوَى : جمع شواة ، وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلاً ، يقال : رمى فأشوى : إذا لم يصب مَقْتلاً ، فربما وصف الواصف بذلك جلدة الرأس كما قال الأعشى :
قالَتْ قُتَيْلَةُ ما لَهُ *** قَدْ جُلّلَتْ شَيْبا شَوَاتُهْ
وربما وصف بذلك الساق كقولهم في صفة الفرس :
*** عبْلُ الشّوَى نَهْدُ الجُزَارَه ***
يعني بذلك : قوائمه ، وأصل ذلك كله ما وصفت . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، قال : سألت ابن عباس عن : نَزّاعَةً للشّوَى قال : تنزع أمّ الرأس .
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصوّاف ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : حدثنا يحيى بن مهلب أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله نَزّاعَةً للشّوَى قال : تنزع الرأس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله نَزّاعَةً للشّوَىَ يعني الجلود والهام .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : نَزّاعَةً للشّوَى قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله : نَزّاعَةً للشّوَى فلم يخبر ، فسألت عنها مجاهدا ، فقلت : اللحم دون العظم ؟ فقال : نعم .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح نَزّاعَةً للشّوَى قال : لحم الساق .
حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة السّوائيّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله نَزّاعَةً للشّوَى قال : نزاعة للحم الساقين .
حدثنا ابن حميد ، قال : مهران ، عن خارجة ، عن قرة بن خالد ، عن الحسن نَزّاعَةً للشّوَى قال : للهام تحرق كلّ شيء منه ، ويبقى فؤاده نضيجا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، في قوله : نَزّاعَةً للشّوَى ثم ذكر نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : نزّاعَةً للشّوَى : أي نزّاعة لهامته ومكارم خَلْقِهِ وأطرافه .
حُدّثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : نَزّاعَةً للشّوَى تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : نَزّاعَةً للشّوَى قال : الشوى : الاَراب العظام ، ذاك الشوى .
وقوله : نَزّاعَةً قال : تقطع عظامهم كما ترى ، ثم يجدّد خلقهم ، وتبدّل جلودهم .
و : «الشوى » جلد الإنسان ، وقيل جلد الرأس الهامة ، قاله الحسن . ومنه قول الأعشى : [ مجزوء الكامل ]
قالت قتيلة ما له*** قد جللت شيباً شواته{[11321]}
ورواه أبو عمرو بن العلاء سراته فلا شاهد في البيت على هذه الرواية . قال أبو عبيدة : سمعت أعرابياً يقول اقشعرت شواتي ، و «الشوى » أيضاً : قوائم الحيوان ، ومنه عبل الشوى{[11322]} ، و «الشوى » أيضاً : كل عضو ليس بمقتل ، ومنه رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل ، ومنه " رمى الشوى " {[11323]} إذا لم يصب المقتل ، وقال ابن جرير : «الشوى » العصب والعقب ، فنار لظى تذهب هذا من ابن آدم وتنزعه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.