{ إن هي إلا حياتنا الدنيا } أصله إن الحياة { إلا حياتنا الدنيا } فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير وإشعارا بأن تعينها مغن عن التصريح بها كقوله :
*** هي النفس ما حملتها تتحمل ***
ومعناه لا حياة إلا هذه الحياة لأن { أن } نافية دخلت على { هي } التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فكانت مثل لا التي تنفي ما بعدها نفي الجنس . { نموت ونحيا } يموت بعضنا ويولد بعض . { وما نحن بمبعوثين } بعد الموت .
قوله : { إن هي إلا حياتنا الدنيا } يَجوز أن يكون بياناً للاستبعاد الذي في قوله : { هيهات لما توعدون } واستدلالاً وتعليلاً له ، ولكلا الوجهين كانت الجملة مفصولة عن التي قبلها .
وضمير { هي } عائد إلى ما لم يسبق في الكلام بل عائد على مذكور بعده قصداً للإبهام ثم التفصيل ليتمكن المعنى في ذهن السامع . وهذا من مواضع عود الضمير على ما بعده إذا كان ما بعده بياناً له ، ولذلك يجعل الاسم الذي بعد الضمير عطف بيان .
ومنه قول الشاعر أنشده في « الكشاف » المصراع الأول وأثبته الطيبي كاملاً :
هي النفس ما حملتها تتحمل *** وللدهر أيام تجور وتعدل
هو الهجر حتى ما يُلم خيال *** وبعضُ صدود الزائرين وصال
ومبيّن الضمير هنا قوله { إلا حياتنا } فيكون الاسم الذي بعد ( إلا ) عطف بيان من الضمير . والتقدير : إن حياتنا إلا حياتنا الدنيا . ووصفها بالدنيا وصف زائد على البيان فلا يقدر مثله في المبيَّن .
وليس هذا الضمير ضمير القصة والشأن لعدم صلاحية المقام له . ولأنه في الآية مفسَّر بالمفرد لا بالجملة وكذلك في بيت أبي العلاء .
ولأن دخول ( لا ) النافية عليه يأبى من جعله ضمير شأن إذ لا معنى لأن يقال : لا قصة إلا حياتنا ، فدخلت عليه ( لا ) النافية للجنس لأنه في معنى اسم جنس لتبيينه باسم الجنس وهو { حياتنا } . فالمعنى ليست الحياة إلا حياتنا هذه ، أي لا حياة بعدها .
والدنيا : مؤنث الأدنى ، أي القريبة بمعنى الحاضرة .
وضمير { حياتنا } مراد به جميع القوم الذين دعاهم رسولهم . فقولهم : { نموت ونحيا } معناه : يموت هؤلاء القوم ويحيا قوم بعدهم . ومعنى { نَحْيَا } : نولد ، أي يموت من يموت ويولد من يولد ، أو المراد : يموت من يموت فلا يَرجع ويحيا من لم يمت إلى أن يموت . والواو لا تفيد ترتيباً بين معطوفها والمعطوف عليه . وعقبوه بالعطف في قوله : { وما نحن بمبعوثين } أي لا نحيا حياة بعد الموت .
وهو عطف على جملة { نموت ونحيا } باعتبار اشتمالها على إثبات حياة عاجلة وموت ، فإن الاقتصار على الأمرين مفيد للانحصار في المقام الخطابي مع قرينة قوله : { إن هي إلا حياتنا الدنيا } . وأفاد صوغ الخبر في الجملة الاسميَّة تقوية مدلوله وتحقيقه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} يعني: نموت نحن ويحيا آخرون من أصلابنا، فنحن كذلك أبدا {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت مثلها في الجاثية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا" يقول: ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها "نُموتُ ونَحْيا" يقول: تموت الأحياء منا فلا تحيا ويحدث آخرون منا فيولدون أحياء. "وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثينَ": يقول: قالوا: وما نحن بمبعوثين بعد الممات.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: يموت منا قوم ويحيا منا قوم.
الثالث: أنه مقدم ومؤخر معناه نحيا ونموت وما نحن بمبعوثين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة؛ لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت «لا» التي نفت ما بعدها نفي الجنس {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن ويأتي قرن آخر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقولهم {إن هي إلا حياتنا الدنيا} أرادوا أنه لا وجود لنا غير هذا الوجود، وإنما تموت منا طائفة فتذهب وتجيء طائفة جديدة، وهذا كفر الدهرية.
لم يريدوا بقولهم نموت ونحيا الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا بهذا التأكيد في التبعيد كأنهم قالوا: إنا لا نبعث أصلاً، اتصل به: {إن هي} أي الحالة التي لا يمكن لنا سواها {إلا حياتنا الدنيا} أي التي هي أقرب الأشياء إلينا وهي ما نحن فيها، ثم فسروها بقولهم: {نموت ونحيا} أي يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب. أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون: إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت و نحيا، وما نحن بمبعوثين.. ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة. هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض. فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا. والشر كذلك. إنما يستكملان هذا الجزء هنالك، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى، التي لا خوف فيها ولا نصب، ولا تحول فيها ولا زوال -إلا أن يشاء الله- ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم، ويرتدون فيها أحجارا، أو كالأحجار! مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى -التي سبقت في السورة- على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون.. لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد. يموت جيل ويحيا بعده جيل. فأما الذين ماتوا، وصاروا ترابا وعظاما، فهيهات هيهات الحياة لهم، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به، وقد صاروا عظاما ورفاتا...
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين}: لقد استبعد هؤلاء أمر البعث، لأنهم لا يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا، فالأمر عندهم محصور فيها {إن هي إلا حياتنا الدنيا}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبهذا الكلام ازدادوا إصراراً على إنكار المعاد قائلين: إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة أُخرى لتحلّ محلّهم، ولا حياة بعد الموت (إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).