[ وقوله ]{[1317]} { إِنَّ هَؤُلَاءِ } أي : المكذبين لك أيها الرسول بعد ما بينت لهم الآيات ، ورغبوا ورهبوا ، ومع ذلك ، لم يفد فيهم ذلك شيئا ، بل لا يزالون يؤثرون ، { الْعَاجِلَةَ } ويطمئنون إليها ، { وَيَذَرُونَ } أي : يتركون العمل ويهملون { وَرَاءَهُمْ } أي : أمامهم { يَوْمًا ثَقِيلًا } وهو يوم القيامة ، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون ، وقال تعالى : { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا والإقامة فيها .
وقوله : إنّ هَؤُلاءِ يُحِبّونَ العاجِلَةَ يقول تعالى ذكره : إن هؤلاء المشركين بالله يحبون العاجلة ، يعني الدنيا ، يقول : يحبون البقاء فيها وتعجبهم زينتها ويذرونَ وراءهُمْ يوما ثَقِيلاً يقول : ويدعون خلف ظهورهم العمل للاَخرة ، وما لهم فيه النجاة من عذاب الله يومئذ وقد تأوّله بعضهم بمعنى : ويذرون أمامهم يوما ثقيلاً وليس ذلك قولاً مدفوعا ، غير أن الذي قلناه أشبه بمعنى الكلمة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْما ثَقِيلاً قال : الاَخرة .
الإشارة ب { هؤلاء } إلى كفار قريش ، و { العاجلة } الدنيا وحبهم لها ، لأنهم لا يعتقدون غيرها ، { ويذرون وراءهم } معناه فيما يأتي من الزمن بعد موتهم ، وقال لبيد : [ الطويل ]
أليس ورائي إن تراخت منيتي*** أدب مع الولدان إن خف كالنسر
ووصف اليوم بالثقل على جهة النسب ، أي : ذا ثقل من حيث الثقل فيه على الكفار ، فهو كليل نائم .
تعليل للنهي عن إطاعتهم في قوله : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] ، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإِعراض عن الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث فلو أعطاهم لتخلق بخلقهم قال تعالى : { ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء } الآية [ النساء : 89 ] . فموقع { إنّ } موقع التعليل وهي بمنزلة فاء السببية كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر .
و { هؤلاء } إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم ، وقد استقريْتُ من القرآن أنه إذا أطلق { هؤلاء } دون سبْققِ ما يكون مشاراً إليه فالمقصود به المشركون ، وقد ذكرتُ ذلك في تفسير قوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكَّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } في سورة الأنعام ( 89 ) وقوله تعالى : { فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء } في سورة هود ( 109 ) .
وقد تنزه رسول الله عن محبة الدنيا فقال : ما لي وللدنيا فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال : حُبِّب إليّ مِن دنياكم النساء والطيب .
فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور ، وما بالطبع لا يتخلف ، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبَرَّأ من الإِيقاع في فساد ومَا هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالى : { ولقد أرسلنا رُسُلاً مِن قبلك وجعلْنا لهم أزواجاً وذُرِّية } [ الرعد : 38 ] .
وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية .
وصيغة المضارع في { يحبّون } تدل على تكرر ذلك ، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة .
و { العاجلة } : صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره : الحياة العاجلة ، أو الدار العاجلة . والمراد بها مدة الحياة الدنيا .
وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقوله : { كلا بل تُحِبُّون العاجلة وتَذرُون الآخرة } [ القيامة : 20 ، 21 ] فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة .
ومتعلق { يحبّون } مضافٌ محذوف ، تقديره : نعيمَ أو منافعَ لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا .
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة . وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضُوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر ، فقوله : { ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً } واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم لأنهم لوْ أحبُّوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارون : { وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] . وهذا نظير قوله تعالى : { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } [ الروم : 7 ] إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإِعراض عن العلم بالآخرة .
ومُثلوا بحال من يترك شيئاً وراءه فهو لا يسعى إليه وإنما يسعى إلى ما بين يديه .
وإنما أعرضوا عنه لأنهم لا يؤمنون بحلوله فكيف يسعون إليه .
وصيغة المضارع في { يذرون } تقتضي أنهم مستمرون على ذلك وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر لا يتخلفون عن ذلك الترك لأنهم لا يؤمنون بحلول ذلك اليوم ، فالمسلمون لا يذرون وراءهم هذا اليوم لأنهم لا يَخلُون من عمل له على تفاوت بينهم في التقوى .
واليومُ الثقيل : هو يوم القيامة ، وُصف بالثقيل على وجه الاستعارة لشدة ما يحصل فيه من المتاعب والكروب فهو كالشيء الثقيل الذي لا يستطاع حمله .
والثقل : يستعار للشدة والعسر قال تعالى : { ثقُلت في السماوات والأرض } [ الأعراف : 187 ] وقال : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.