لما توعدهم ووبخهم عطف برحمته وجوده وإحسانه وحذر عباده المؤمنين منهم لئلا يمكروا بهم من حيث لا يشعرون ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وذلك لحسدهم وبغيهم عليكم ، وشدة حرصهم على ردكم عن دينكم ، كما قال تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } .
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من الذين أوتوا الكتاب ، الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، وما مَنَحهم به من إرسال رسوله{[5416]} كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] وهكذا قال هاهنا : { إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك ، فقال بعضهم : عنى بقوله : { يا أيّها الّذِين آمَنُوا } الأوس والخزرج ، وبالذين أوتوا الكتاب : شاس بن قيس اليهودي ، على ما قد ذكرنا قبل من خبره عن زيد بن أسلم .
وقال آخرون : فيمن عُني بالذين آمنوا ، مثل قول زيد بن أسلم ، غير أنهم قالوا : الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى هموا بالقتال ووجدوا اليهودي به مغمزا فيهم ثعلبة بن عنمة الأنصاري . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } قال : نزلت في ثعلبة بن عنمة الأنصاري ، كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام ، فمشى بينهم يهودي من قينقاع ، فحمل بَعْضَهُم على بعضٍ حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاح فيقاتلوا ، فأنزل الله عز وجل : { إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } يقول : إن حملتم السلاح فاقتتلتم كفرتم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج عن مجاهد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ } قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين الأوس والخزرج ، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن ، حتى منّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم ، وألّف بينهم بالإسلام قال : فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ، ومعهما يهودي جالس ، فلم يزل يذكّرهما أيامهما والعداوة التي كانت بينهم ، حتى استبّا ، ثم اقتتلا . قال : فنادى هذا قومه ، وهذا قومه ، فخرجوا بالسلاح ، وصفّ بعضهم لبعض . قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم ، حتى رجعوا ووضعوا السلاح ، فأنزل الله عزّ وجلّ القرآن في ذلك : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ } إلى قوله : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فتأويل الاَية : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله ، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل ، فتقلبوا منهم ما يأمرونكم به ، يضلوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين¹ يقول : جاحدين لما قد آمنتم به وصدّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم . فنهاهم جلّ ثناؤه أن ينتصحوهم ، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة ، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غلّ وغشّ وحسد وبغض . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } : قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون ، وحذركم وأنبأكم يضلالتهم ، فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنصحوهم على أنفسكم ، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال . كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم ، وقتلوا رسلهم ، وتحيروا في دينهم ، وعجزوا عن أنفسهم ؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة !
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون ، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح ، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال " أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم " فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما خاطبهم الله بنفسه بعدما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم ، وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم .