{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ } أي : للموجودين من{[755]} بعدهم { مِنْ مِثْلِهِ } أي : من مثل ذلك الفلك ، أي : جنسه { مَا يَرْكَبُونَ } به ، فذكر نعمته على الآباء بحملهم في السفن ، لأن النعمة عليهم ، نعمة على الذرية . وهذا الموضع من أشكل المواضع عليَّ في التفسير ، فإن ما ذكره كثير من المفسرين ، من أن المراد بالذرية الآباء ، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء ، بل فيها من الإيهام ، وإخراج الكلام عن موضوعه ، ما يأباه كلام رب العالمين ، وإرادته البيان والتوضيح لعباده .
وثَمَّ احتمال أحسن من هذا ، وهو أن المراد بالذرية الجنس ، وأنهم هم بأنفسهم ، لأنهم هم من ذرية [ بني ] آدم ، ولكن ينقض هذا المعنى قوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } إن أريد : وخلقنا من مثل ذلك الفلك ، أي : لهؤلاء المخاطبين ، ما يركبون من أنواع الفلك ، فيكون ذلك تكريرا للمعنى ، تأباه فصاحة القرآن . فإن أريد بقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } الإبل ، التي هي سفن البر ، استقام المعنى واتضح ، إلا أنه يبقى أيضا ، أن يكون الكلام فيه تشويش ، فإنه لو أريد هذا المعنى ، لقال : وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَاهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون ، ِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ، فأما أن يقول في الأول : وحملنا ذريتهم ، وفي الثاني : حملناهم ، فإنه لا يظهر المعنى ، إلا أن يقال : الضمير عائد إلى الذرية ، واللّه أعلم بحقيقة الحال .
فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع ، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد اللّه تعالى ، وذلك أن من عرف جلالة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه ، للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة ، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله ، وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على عباده ، من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة ، ولم تزل موجودة في كل زمان ، إلى زمان المواجهين بالقرآن .
فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن ، وذكر حالة الفلك ، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك في غير وقتهم ، وفي غير زمانهم ، حين يعلمهم [ صنعة ] الفلك [ البحرية ] الشراعية منها والنارية ، والجوية السابحة في الجو ، كالطيور ونحوها ، [ والمراكب البرية ] مما كانت الآية العظمى فيه لم توجد إلا في الذرية ، نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال :
{ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : المملوء ركبانا وأمتعة .
وقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } : قال العَوْفي ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الإبل ، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة - في رواية - عبد الله بن شَداد ، وغيرهم . {[24761]}
وقال السدي - في رواية - : هي الأنعام .
وقال ابن جرير : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير{[24762]} ، عن ابن عباس قال : تدرون ما { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } ؟ قلنا : لا . قال : هي السفن ، جعلت من بعد سفينة نوح على مثلها .
وكذا قال [ غير واحد و ]{[24763]} أبو مالك ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو صالح ، والسدي أيضًا : المراد بقوله :{[24764]} { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } : أي السفن .
ويُقَوِّي هذا المذهب في المعنى قوله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 ، 12 ] .
وقوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يقول تعالى ذكره : وخلقنا لهؤلاء المشركين المكذّبيك يا محمد ، تفضلاً منا عليهم ، من مثل ذلك الفلك الذي كنا حملنا من ذرّية آدم مَنْ حملنا فيه الذي يركبونه من المراكب .
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عُني بقوله : ما يَرْكَبُونَ فقال بعضهم : هي السفن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : تدرون ما وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ؟ قلنا : لا . قال : هي السفن جُعلت من بعد سفينة نوح على مِثْلها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك في قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : السفن الصغار .
قال : ثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، في قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : السفن الصغار ، ألا ترى أنه قال : وَإنْ نَشأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ؟ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن في هذه الاَية : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : السفن الصغار .
حدثنا حاتم بن الضبّي ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، عن شعبة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : السفن الصغار .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يعني : السفن التي اتخذت بعدها ، يعني بعد سفينة نوح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : هي السفن التي ينتفع بها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : وهي هذه الفلك .
حدثني يونس ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : نعم من مثل سفينة .
وقال آخرون : بل عُني بذلك الإبل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يعني : الإبل ، خَلَقها الله كما رأيت ، فهي سفن البرّ ، يُحْمَلون عليها ويركبونها .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا غندر ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : الإبل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، قال : قال عبد الله بن شدّاد : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ هي الإبل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال : من الأنعام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : هي الإبل .
وأشبه القولين بتأويل ذلك قول مَن قال : عُنِي بذلك السفن ، وذلك لدلالة قوله : وَإنْ نَشأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ على أن ذلك كذلك ، وذلك أن الغرق معلوم أن لا يكون إلا في الماء ، ولا غرق في البرّ .
{ آية } معناه علامة ودليل ، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله { لهم } ، و { أنا } بدل من { آية } وفيه نظر ، ويجوز أن تكون «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً ، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش «ذرياتهم » بالجمع ، وقرأ الباقون «ذريتهم » بالإفراد ، وهي قراءة طليحة وعيسى ، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس ، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا ، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة ، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين : أحدهما قاله ابن عباس وجماعة ، وهو أن يريد ب «الذريات المحمولين » أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله { من مثله } السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها أراد الله تعالى بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة .
ويريد بقوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط ، ويعود قوله { وإن نشأ نغرقهم } على السفن الموجودة في الناس ، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل { من مثله } في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى : { وإن نشأ نغرقهم } فتأمله ، و { الفلك } جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر ، و { من } في قوله { من مثله } ، يتجه على أحد التأويلين : أن تكون للتبعيض ، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره ، ويقال الإبل مراكب البر .