{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ْ } أي : اقتلع الخضر منها لوحا ، وكان له مقصود في ذلك ، سيبينه ، فلم يصبر موسى عليه السلام ، لأن ظاهره أنه منكر ، لأنه عيب للسفينة ، وسبب لغرق أهلها ، ولهذا قال موسى : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ْ } أي : عظيما شنيعا ، وهذا من عدم صبره عليه السلام ، فقال له الخضر : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ }
ويرضى موسى . . وإذا نحن أمام المشهد الأول لهما :
( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ) . .
سفينة تحملهما وتحمل معهما ركابا ، وهم في وسط اللجة ؛ ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة ! إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى هذا الشر ؛ فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر ?
لقد نسى موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه ، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي ! والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد ، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعا غير التصور النظري . فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد . وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل إلى أنه لا يستطيع صبرا على ما لم يحط به خبرا ، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط . ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفع مستنكرا .
نعم إن طبيعة موسى طبيعة انفعالية اندفاعية ، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته . منذ أن وكز الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله في اندفاعة من اندفاعاته . ثم أناب إلى ربه مستغفرا معتذرا حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع مصري آخر ، هم بالآخر مرة أخرى !
نعم إن طبيعة موسى هي هذه الطبيعة . ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي قطعه أمام غرابتها . ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما غير التصور النظري . ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها وجربتها .
وقوله { فانطلقا } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر حتى مرت بهما سفينة ، فعرف الخضر فحملا بغير قول إلى مقصد أمه الخضر ، وعرفت { السفينة } بالألف واللام تعريف الجنس لا لعهد عينها ، فلما ركبا عمد الخضر إلى وتد فجعل يضرب في جنب السفينة حتى قلع به ، فيما روي لوحين من ألواحها فذلك هو معنى { خرقها } فلما رأى ذلك موسى غلبه ظاهر الأمر على الكلام حين رأى فعلاً يؤدي إلى غرفة جميع من في السفينة ، فوقفه بقوله { أخرقتها } وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «لتغرق أهلها » بالتاء وقرأ أبو رجاء «لتغَرِّق » بشد الراء وفتح الغين ، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلُها » برفع الأهل ، وإسناد الفعل إليهم و «الإمر » الشنيع من الأمور كالداهية والإد ونحوه ، ومنه أمر إمْر ابن أبي كبشة{[1]} ومنه أمر القوم إذا كثروا ، وقال مجاهد «الإمر » المنكر .
أي فعقِب تلك المحاورة أنهما انطلقا . والانطلاق : الذهاب والمشي ، مشتق من الإطلاق وهو ضد التقييد ، لأن الدابة إذا حُلّ عقالها مشت . فأصله مطاوع أطلقه .
و ( حتى ) غاية للانطلاق . أي إلى أن ركبا في السفينة .
و ( حتى ) ابتدائية ، وفي الكلام إيجاز دل عليه قوله : { إذا ركبا في السفينة } . أصل الكلام : حتى استأجرا سفينة فركباها فلما ركبا في السفينة خرقها .
وتعريف { السفينة } تعريف العهد الذهني ، مثل التعريف في قوله تعالى : { وأخاف أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] .
وإذا } ظرف للزمان الماضي هنا ، وليست متضمنة معنى الشرط . وهذا التوقيت يؤذن بأخذه في خرق السفينة حين ركوبهما . وفي ذلك ما يشير إلى أن الركوب فيها كان لأجل خرقها لأن الشيء المقصود يبادِر به قاصده لأنه يكون قد دبره وارتآه من قبل .
وبني نظم الكلام على تقديم الظرف على عامله للدلالة على أن الخرق وقع بمجرد الركوب في السفينة ، لأن في تقديم الظرف اهتماماً به ، فيدل على أن وقت الركوب مقصود لإيقاع الفعل فيه .
وضمن الركوب معنى الدخول لأنه ركوب مجازي ، فلذلك عدي بحرف ( في ) الظرفية نظير قوله تعالى : { وقال اركبوا فيها } [ هود : 41 ] دون نحو قوله : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } [ النحل : 8 ] . وقد تقدم ذلك في سورة هود .
والخرق : الثقب والشق ، وهو ضد الالتئام .
والاستفهام في { أخرقتها } للإنكار . ومحل الإنكار هو العلة بقوله : { لتغرق أهلها } ، لأن العلة ملازمة للفعل المستفهم عنه . ولذلك توجه أن يغير موسى عليه السلام هذا المنكَر في ظاهر الأمر ، وتأكيد إنكاره بقوله : { لقد جئت شيئاً إمراً } .
والإمر بكسر الهمزة : هو العظيم المفظع . يقال : أَمِر كفرح إِمراً ، إذا كثر في نوعه . ولذلك فسره الراغب بالمنكر ، لأن المقام دال على شيء ضارّ . ومقام الأنبياء في تغيير المنكر مقام شدة وصراحة . ولم يجعله نكراً كما في الآية بعدها لأن العلم الذي عمله الخضر ذريعة للغرق ولم يقع الغرق بالفعل .
وقرأ الجمهور { لتغرق } بمثناة فوقية مضمومة على الخطاب . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف { ليَغرق } بتحتية مفتوحة ورفع { أهلها } على إسناد فعل الغرق للأهل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.