{ 23-24 } { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }
هذا النهي كغيره ، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم ، فإن الخطاب عام للمكلفين ، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة ، { إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه بمشيئة الله ، وذلك لما فيه من المحذور ، وهو : الكلام على الغيب المستقبل ، الذي لا يدري ، هل يفعله أم لا ؟ وهل تكون أم لا ؟
وبمناسبة النهي عن الجدل في غيب الماضي ، يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه ؛ فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه :
( ولا تقولن لشيء : إني فاعل ذلك غدا - إلا أن يشاء الله - واذكر ربك إذا نسيت ، وقل : عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) .
إن كل حركة وكل نأمة ، بل كل نفس من أنفاس الحي ، مرهون بإرادة الله . وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة ؛ وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل ؛ وعقله مهما علم قاصر كليل . فلا يقل إنسان : إني فاعل ذلك غدا . وغدا في غيب الله وأستار غيب الله دون العواقب .
وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان ، لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له ؛ وأن يعيش يوما بيوم ، لحظة بلحظة . وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله . . كلا . ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره ؛ وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم ، ويستشعر أن يد الله فوق يده ، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره . فإن وقفة الله إلى ما اعتزم فبها . وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس ، لأن الأمر لله أولا وأخيرا .
فليفكر الإنسان وليدبر ؛ ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله ، ويدبر بتوفيق الله ، وأنه لا يملك إلا ما يمده الله به من تفكير وتدبير . ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ ، أو ضعف أو فتور ؛ بل على العكس يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة . فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره ، فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام . لأنه الأصل الذي كان مجهولا له فكشف عنه الستار .
هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم . فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكر ويدبر . ولا يحس بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح . ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق . بل يبقى في كل أحواله متصلا بالله ، قويا بالاعتماد عليه ، شاكرا لتوفيقه إياه ، مسلما بقضائه وقدره . غير متبطر ولا قنوط .
هذا إرشاد من الله لرسوله الله صلوات الله وسلامه عليه ، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل ، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله ، عز وجل ، علام الغيوب ، الذي يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [ قال ]{[18088]} قال سليمان بن داود عليهما السلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية تسعين امرأة . وفي رواية : مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله ، فقيل له - وفي رواية : فقال له الملك - قل : إن شاء الله . فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لو قال : " إن شاء الله " لم يحنث ، وكان دركا لحاجته " ، وفي رواية : " ولقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون{[18089]} {[18090]}
وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عن قصة أصحاب الكهف : " غدًا أجيبكم " . فتأخر الوحي خمسة عشر يومًا ، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة ، فأغنى عن إعادته .
وقوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قيل : معناه إذا نسيت الاستثناء ، فاستثن عند ذكرك له . قاله أبو العالية ، والحسن البصري .
وقال هشيم ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في الرجل يحلف ؟ قال : له أن يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } في ذلك . قيل للأعمش : سمعته عن مجاهد ؟ قال{[18091]} حدثني به ليث بن أبي سليم ، يرى{[18092]} ذهب كسائي هذا .
ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به{[18093]} .
ومعنى قول ابن عباس : " أنه يستثني ولو بعد سنة " أي : إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه " إن شاء الله " وذكر ولو بعد سنة ، فالسُّنة له أن يقول ذلك ، ليكون آتيا بسُنَّة الاستثناء ، حتى ولو كان بعد الحنث ، قال ابن جرير ، رحمه الله ، ونص على ذلك ، لا أن يكون [ ذلك ]{[18094]} رافعًا لحنث اليمين ومسقطًا للكفارة . وهذا الذي قاله ابن جرير ، رحمه الله ، هو الصحيح ، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه ، والله أعلم .
وقال عكرمة : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي : إذا غضبت . وهذا تفسير باللازم .
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى الحُلْواني ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس : { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول : إن شاء الله{[18095]} [ وهذا تفسير باللازم ]{[18096]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحارث الجُبيلي{[18097]} حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد العزيز بن حُصَيْن ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول : إن شاء الله .
وروى الطبراني ، أيضًا عن ابن عباس في قوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } الاستثناء ، فاستثن إذا ذكرت . وقال : هي خاصة برسول{[18098]} الله صلى الله عليه وسلم ، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال : تَفَرَّد به الوليد ، عن عبد العزيز بن الحصين{[18099]} {[18100]} .
ويحتمل في الآية وجه آخر ، وهو أن يكون الله ، عز وجل ، قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى ؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان ، كما قال فتى موسى : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان ، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ، فذكر الله سبب للذكر{[18101]} ؛ ولهذا قال : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } .
وقوله : { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } أي : إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه ، فاسأل الله فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد [ في ذلك ]{[18102]} وقيل في تفسيره غير ذلك في تفسيره ، والله أعلم .