محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا} (23)

وقوله تعالى :

{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ( 23 ) } .

{ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ( 24 ) } .

{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } في هذه الآية وجوه من المعاني . منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول ، فتكون قائلا بمشيئته ، فالمشيئة على هذا بمعنى الإذن . لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي إعلامه به . ومنها لا تقولن لما عزمت عليه من فعل ، إني فاعل ذلك غدا إلا قائلا معه إن شاء الله تبرؤا من لزوم التحكم على الله ، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله ، فتكون فاعلا بمشيئته . ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى . ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعا بفعله وباتا له . لأنه : { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه . وقوله تعالى : { إلا أن يشاء الله } أي أن تقول ذلك القول البات نسيانا فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره . ولذا قال : { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } وعلى هذه الوجوه كلها ف { لا تقولن } نهي معطوف على النهيين قبله . قال الجاحظ في كتاب ( الحيوان ) : إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول : إن شاء الله ، ليبقى عادة للمتألي ، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني ، وعلى أن يكون عبده ذاكرا لله . لأنه عبد مدبر ، ومقلب ميسر ، ومصرف مسخر .

وبقي وجه آخر . وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول . والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله . كقوله تعالى : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قال في ( الانتصاف ) وفي هذا المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان هم بأمر ما في نبأ هؤلاء الفتية ، وعزم على أمر في غد المحاورة به . ولعله الاستفتاء عنهم . فلما نهى عنه أخبر بان كل شيء كائن بمشيئته تعالى ، ليدخل فيه ما كان قاله دخولا أوليا ، أي ما قلته وعزمت على فعله كان بمشيئة الله ، إذ شاء الله أن تقوله . فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب ، إثر ما يومئ إليه النهي إليها من رقيق العتاب ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم ، ولاحق الأمر بذكره تعالى إذا نسي ، أي نسي ما وصي به . وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه .

فدعوى الناصر في ( الانتصاف ) أنه ليس هو الغرض ، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقرونا بمشيئته تعالى – قصر للآية على أحد معانيها ، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها ، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق ، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها . وقد ظهر قوة المعنى الأخير لموافقته لآية { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } والقرآن يفسر بعضه بعضا . والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى : { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } أي خيرا ومنفعة . والإشارة ، للنبأ المتحاور فيه .

تنبيهات :

الأول : روي أنه صلوات الله عليه سئل عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين ، فقال : ( أجيبكم عنها غدا ولم يستثن ) . فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما ، ثم نزلت : { ولا تقولن } الآية . وقد زيف هذه الرواية القاضي – كما حكاه الرازي – من أوجه . والحق له . لأنها من مرويات ابن إسحاق عن شيخ مجهول . كما ساقه عنه ابن كثير وغيره . والله أعلم .

الثاني : يشير قوله تعالى : { وقل عسى أن يهدين ربي } الآية ، إلى أن هذا النبأ ليس مما تنبغي العناية بتحقيقه وتدقيق أطرافه ، وابتغاء الرشاد فيه ، حتى يتكلف لفتوى أهل الكتاب فيه . والعزم على فعل شيء مما يلابسه في المستقبل ، لأنه من الأمور الغابرة التي حق الخائض فيها أن ينظر منها إلى وجه العبرة والفوائد التي حوتها ، كما أحكمته آيات التنزيل في شأنها .

الثالث : اعترضت هذه الآداب أعني من قوله تعالى : { فلا تمار } إلى هنا قبل تتميم نبئهم ، مبادرة إلى الاهتمام بهذه الآداب والاحتفاظ بها ، لتتمكن فضل تمكن ، وترسخ في النفس أشد رسوخ . والله أعلم .

الرابع : روي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } : إذا نسيت الاستثناء بالمشيئة ثم ذكرت فاستثن ، وذلك ( كما قال القرطبي ) لتدارك التبرك والتخلص عن الإثم .

وقال في ( الإنتصاف ) : أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة ، متى ذكرت ولو بعد الطول .

وأما حلها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها . انتهى .

ودعوى أنه الظاهر هو على أحد الوجوه فيها ، مفرعا أن المشيئة في الآية قبلها ، مشيئة القول ، وهو أحد معاني الآية . وقد حكي عن ابن عباس جواز الاستثناء وإن طال الزمان . ثم اختلف عنه . فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبدا . وفي ( حصول المأمول ) : ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس ، لعله لم يعلم بأنها ثابتة في مستدرك الحاكم ) وقال : صحيح على شرط الشيخين بلفظ : ( إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة ) ومثله عند أبي موسى المدني وسعيد بن منصور وغيرهما من طرق . وبالجملة فالرواية عنه رضي الله عنه قد صحت ، لكن الصواب خلافا لما قاله .

قال ابن القيم في ( مدارج السالكين ) إن مراده أنه إذا قال شيئا ولم يستثن ، فله أن يستثني عند الذكر . وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه . انتهى .

وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه . والاستثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر ، فقد دلت عليه الأدلة الصحيحة . منها حديث أبي داود وغيره ( والله ! لأغزون قريشا ) ثم سكت ثم قال : ( إن شاء الله ) . ومنها حديث : ( ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ) فقال العباس ( إلا الإذخر ) . وهو في ( الصحيح ) . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية : ( إلا سهل ابن بيضاء ) انتهى .