{ لَهُمْ غُرَفٌ } أي : منازل عالية مزخرفة ، من حسنها وبهائها وصفائها ، أنه يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ، ومن علوها وارتفاعها ، أنها ترى كما يرى الكوكب الغابر في الأفق الشرقي أو الغربي ، ولهذا قال : { مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ } أي : بعضها فوق بعض " مَبْنِيَّةٌ " بذهب وفضة ، وملاطها المسك الأذفر .
{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } المتدفقة ، المسقية للبساتين الزاهرة والأشجار الطاهرة ، فتغل بأنواع الثمار اللذيذة ، والفاكهة النضيجة .
{ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } وقد وعد المتقين هذا الثواب ، فلا بد من الوفاء به ، فليوفوا بخصال التقوى ، ليوفيهم أجورهم .
وأمام مشهد هؤلاء في النار - وكأنهم فيها فعلا الآن . ما دام قد حق عليهم العذاب - يعرض مشهد الذين اتقوا ربهم ، وخافوا ما خوفهم الله :
( لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية ، تجري من تحتها الأنهار . وعد الله . لا يخلف الله الميعاد ) . .
ومشهد الغرف المبنية ، من فوقها غرف ، تجري الأنهار من تحتها . . هذا المشهد يتقابل مع مشهد ظلل النار هناك من فوقهم ومن تحتهم . هذا التقابل الذي ينسقه التعبير القرآني وهو يرسم المشاهد للأنظار .
ذلك وعد الله . ووعد الله واقع . لا يخلف الله الميعاد .
ولقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة . عاشوا هذه المشاهد فعلاً وواقعاً . فلم تكن في نفوسهم وعداً أو وعيداً يتلقونهما من مستقبل بعيد . إنما كان هذا وذلك واقعاً تشهده قلوبهم وتحسه وتراه . وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه . ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول ؛ وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بذلك الواقع الأخروي ، الذي كانوا يعيشونه ويحيون به وهم بعد في الحياة ! وهكذا ينبغي أن يتلقى المسلم وعد الله .
ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة ، وهي القصور الشاهقة { مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ } ، أي : طباق فوق طباق ، مَبْنيات محكمات مزخرفات عاليات .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنة لغرفًا يُرَى بطونها من ظهورها ، وظهورها من بطونها » فقال أعرابي : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : «لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى لله بالليل والناس نيام » .
ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، وقال : " حسن غريب ، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن مُعانق - أو : أبي مُعَانق - عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنة لغرفة يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى والناس نيام » . تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن مُعَانق الأشعري ، عن أبي مالك ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء » . قال : فحدثتُ بذلك النعمان بن أبي عياش ، فقال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : " كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث أبي حازم ، وأخرجاه أيضًا في الصحيحين من حديث مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا فَزارة ، أخبرني فُلَيح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف ، كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع ، في تفاضل أهل الدرجات » . فقالوا : يا رسول الله ، أولئك النبيون ؟ فقال : «بلى ، والذي نفسي بيده ، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل » . ورواه الترمذي عن سُويد ، عن ابن المبارك عن فُلَيح به وقال : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو كامل قالا حدثنا زهير ، حدثنا سعد الطائي ، حدثنا أبو المدَلَّة - مولى أم المؤمنين - أنه سمع أبا هريرة يقول : قلنا : يا رسول الله ، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا ، وكنا من أهل الآخرة ، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء والأولاد . قال : «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي ، لصافحتكم الملائكة بأكفهم ، ولزارتكم في بيوتكم . ولو لم تُذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم » . قلنا : يا رسول الله ، حَدّثنا عن الجنة ، ما بناؤها ؟ قال : «لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة ، وملاطها المسك الأذْفَر ، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم ولا يَبْأس ، ويخلد ولا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه . ثلاثة لا تُرَدَّ دعوتُهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم تُحمَل على الغَمام ، وتفتح لها أبواب السموات ، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين » .
وروى الترمذي ، وابنُ ماجه بعضَه ، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي - وكان ثقة - عن أبي المُدَلِّه - وكان ثقة - به .
وقوله : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تسلك الأنهار بين خلال ذلك ، كما يشاءوا وأين أرادوا ، { وَعَدَ اللَّهُ } أي : هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين { إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.