السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّةٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِيعَادَ} (20)

وقوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم } استدراك بين شبهي نقيضين أو ضدين وهما المؤمنون والكافرون أي : جعلوا بينهم وبين المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكون فلم يجعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه وقوله تعالى : { لهم غرف } أي : علالي من الجنة يسكنونها { من فوقها غرف } شديدة العلو مقابل لما ذكر في وصف الكفار لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل والمعنى لهم منازل في الجنة رفيعة ومن فوقها منازل أرفع منها .

فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : { مبنية } ؟ أجيب : بأن المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله تعالى : { مبنية } فائدته أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ للمنزل الأسفل .

ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء وكان الجاري أحسن أشرف قال تعالى { تجري من تحتها } أي : من تلك الغرف الفوقانية والتحتانية { الأنهار } أي : المختلفة كما قال تعالى : { فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى } ( محمد : 15 ) وقوله تعالى : { وعد الله } مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى : { غرف } في معنى وعدهم الله ذلك { لا يخلف الله الميعاد } لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال ، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » وقوله : الغابر أي : الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب .