وقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } بشارة عظيمة ، أنه كلما وجد عسر وصعوبة ، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه ، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر ، فأخرجه كما قال تعالى : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن الفرج مع الكرب ، وإن مع العسر يسرا " .
وتعريف " العسر " في الآيتين ، يدل على أنه واحد ، وتنكير " اليسر " يدل على تكراره ، فلن يغلب عسر يسرين .
وفي تعريفه بالألف واللام الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر -وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ- فإنه في آخره التيسير ملازم له .
ومع هذا فإن الله يتلطف مع حبيبه المختار ، ويسري عنه ، ويؤنسه ، ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا يفارقه :
( فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا ) . .
إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه . وقد لازمه معك فعلا . فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك ، فخف حملك ، الذي أنقض ظهرك . وكان اليسر مصاحبا للعسر ، يرفع إصره ، ويضع ثقله .
وقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } أخبر تعالى أن مع العسر يوجَدُ اليسر ، ثم أكد هذا الخبر .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا حُميد بن حماد بن خَوَار أبو الجهم ، حدثنا عائذ بن شُريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا{[30216]} وحياله حجر ، فقال : " لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه " ، فأنزل الله عز وجل : {[30217]} { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } {[30218]} .
ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن مَعْمَر ، عن حُميد بن حماد ، به ولفظه : " لو جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يخرجه " ثم قال : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح{[30219]} .
قلت : وقد قال فيه أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف ، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة ، عن رجل ، عن عبد الله بن مسعود موقوفا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا أبو قَطَن {[30220]} حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : كانوا يقولون : لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن{[30221]} ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا وهو يضحك ، وهو يقول : " لن يَغْلِب عُسْر يسرين ، لن يغلب عسر يسرين ، فإن{[30222]} مع العسر يسرًا ، إن مع العسر يسرًا " .
وكذا رواه من حديث عوف الأعرابي ويونس بن عبيد ، عن الحسن مرسلا{[30223]} .
وقال سعيد ، عن قتادة : ذُكِرَ لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال : " لن يغلب عسر يسرين " .
ومعنى هذا : أن العسر معرف في الحالين ، فهو مفرد ، واليسر منكر فتعدد ؛ ولهذا قال : " لن يغلب عسر يسرين " ، يعني قوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فالعسر الأول عين{[30224]} الثاني واليسر تعدد .
وقال الحسن بن سفيان : حدثنا يزيد بن صالح ، حدثنا خارجة ، عن عباد بن كثير ، عن أبي الزناد ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نزل{[30225]} المعونة من السماء على قدر المؤونة ، ونزل الصبر على قدر المصيبة " {[30226]} .
ومما يروى عن الشافعي ، رضي الله عنه ، أنه قال :
صَبرا جَميلا ما أقرَبَ الفَرجا *** مَن رَاقَب الله في الأمور نَجَا
مَن صَدَق الله لَم يَنَلْه أذَى *** وَمَن رَجَاه يَكون حَيثُ رَجَا
وقال ابن دُرَيد : أنشدني أبو حاتم السجستاني :
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ *** وضاق لما به الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكاره واطمأنت *** وأرست في أماكنها الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجها *** ولا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاك على قُنوط منك غَوثٌ *** يمن به اللطيف المستجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب
قوله : فَإنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإنّ مع الشدّة التي أنت فيها ، من جهاد هؤلاء المشركين ، ومِن أوّله : ما أنت بسبيله ، رجاءً وفرجا بأن يُظْفِرَك بهم ، حتى ينقادوا للحقّ الذي جئتهم به طوعا وكَرها .
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الاَية لما نزلت ، بَشّر بها أصحابه وقال : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت يونس ، قال : قال الحسن : لما نزلت هذه الاَية فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبْشِرُوا أتاكُمُ اليُسْرُ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا فَرِحا وهو يضحك ، وهو يقول : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَإنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر أصحابه بهذه الاَية ، فقال : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن معاوية بن قرة أبي إياس ، عن رجل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لو دخل العسر في جُحْر ، لجاء اليسر حتى يدخل عليه ، لأن الله يقول : فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن رجل ، عن عبد الله ، بنحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا قال : يتبع اليسرُ العُسرَ .
ثم قوى تعالى رجاءه بقوله سبحانه : [ فإن مع العسر يسرا ] أي مع ما تراه من الأذى فرج يأتيك ، وكرر الله تعالى ذلك مبالغة وتبيينا للخير ، فقال بعض الناس : المعنى إن مع العسر يسرا في الدنيا وإن مع العسر يسرا في الآخرة ، وذهب كثير من العلماء إلى أن مع كل عسر يسرين بهذه الآية ، من حيث " العسر " معرف للعهد ، و " اليسر " منكر ، فالأول غير الثاني وقد روي في هذا التأويل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يغلب عسر يسرين ){[11888]} وأما قول عمر به فنص في الموطأ في رسالته إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما . وقرأ عيسى ويحيى بن وثاب وأبو جعفر : ( العسر واليسر ) بضمتين ، وقرأ ابن مسعود : [ إن مع العسر يسرا ] واحدة غير مكررة .
الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر يدل عليه الاستفهام التقريري هنا ، أي إذا علمت هذا وتقرر ، تعلَمُ أن اليسر مصاحب للعسر ، وإذ كان اليسر نقيض العسر كانت مصاحبةُ اليسر للعسر مقتضيةً نقضَ تأثير العسر ومبطلة لعمله ، فهو كناية رمزية عن إدراك العناية الإلهية به فيما سبق ، وتعريض بالوعد باستمرار ذلك في كل أحواله .
وسياق الكلام وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن يُيَسر اللَّهُ له المصاعب كلَّما عرضت له ، فاليسر لا يتخلف عن اللحاق بتلك المصاعب ، وذلك من خصائص كلمة { مع } الدالة على المصاحبة .
وكلمة { مع } هنا مستعملة في غير حقيقة معناها لأن العسر واليسر نقيضان فمقارنتهما معاً مستحيلة ، فتعين أن المعيّة مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره ، بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعية . وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى : { سيجعل اللَّه بعد عسر يسراً } في سورة الطلاق ( 7 ) .
فهذه الآية في عسر خاص يعرض للنبيء ، وآية سورة الطلاق عامة ، وللبعْدية فيها مراتب متفاوتة .
فالتعريف في { العسر } تعريف العهد ، أي العسر الذي عَهِدْتَه وعلمتَه وهو من قبيل ما يسميه نحاة الكوفة بأن ( ال ) فيه عوض عن المضاف إليه نحو قوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] أي فإن مع عُسرك يسراً ، فتكون السورة كلها مقصورة على بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تعالى .
وعد الله تعالى نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل الأمور العسرة عليه يسرة له وهو ما سبق وعده له بقوله : { ونيسرك لليسرى } [ الأعلى : 8 ] .
وحرف { إنْ } للاهتمام بالخبر .
وإنما لم يستغن بها عن الفاء كما يقول الشيخ عبد القاهر : ( إنَّ ) تغني غَناء فاء التسبب ، لأن الفاء هنا أريد بها الفصيحة مع التسبب فلو اقتصر عَلى حرف ( إنّ ) لفات معنى الفصيحة .
وتنكير { يسراً } للتعظيم ، أي مع العسر العارض لك تيسيراً عظيماً يغلب العسر ويجوز أن يكون هذا وعداً للنبيء صلى الله عليه وسلم ولأمته لأن ما يعرض له من عسر إنما يعرض له في شؤون دعوته للدين ولصالح المسلمين .
وروى ابن جرير عن يونس ومعمر عن الحَسَن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت هذه الآية : { فإن مع العسر يسراً } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين " فاقتضى أن الآية غير خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بل تعمّه وأمته . وفي « الموطإ » « أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يَذْكُر له جموعاً من الروم وما يُتخوف منهم فكتب إليه عمر : « أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجاً وإنه لن يغلب عسر يسرين » .
وروى ابن أبي حاتم والبزار في « مُسنده » عن عائذِ بن شريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول : « كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حَجَر ، فقال : لو جاء العسر فدخل هذا الحَجَر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيُخرجه فأنزل الله عز وجل : { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } . قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح قال ابن كثير : وقد قال أبو حاتم الرازي : في حديث عائذ بن شريح ضعف .
وروى ابن جرير مثله عن ابن مسعود موقوفاً ، ويجوز أن تكون جملة : { فإن مع العسر يسراً } معترضة بين جملة { ورفعنا لك ذكرك } [ الشرح : 4 ] وجملة : { فإذا فرغت فانصب } [ الشرح : 7 ] تنبيهاً على أن الله لطيف بعباده فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر وأنه لولا ذلك لهلك الناس قال تعالى { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } [ النحل : 61 ] .
وروي عن ابن عباس : يقول الله تعالى خلقت عسراً واحداً وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين ا ه .