اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا} (5)

قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } ، العامة : على سكون السين في الكلم الأربع .

وابن وثَّاب وأبو جعفر{[60461]} وعيسى : بضمها ، وفيه خلاف ، هل هو أصل ، أو منقول من المسكن ؟ والألف واللام في العسر الأول لتعريف الجنس ، وفي الثاني للعهد ، وكذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - لن يغلب عسرٌ يسرين ، وروي أيضاً مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم خرج يضحك يقول : «لن يغلب عسر يسرين »{[60462]} والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم ، ثم أعادته مع الألف واللام ، كان هو الأول ، نحو : جاء رجل فأكرمتُ الرجل ، وقوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ، فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] ، ولو أعادته بغير ألف ولام كان غير الأول ، فقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } لما أعاد العسر الثاني أعاده ب «أل » ، ولما كان اليُسْر الثاني غير الأول لم يعده بأل .

وقال الزمخشريُّ{[60463]} : فإن قلت : ما معنى قول ابن عبَّاس ؟ وذكر ما تقدم .

قلت : هذا عمل على الظاهر ، وبناء على قوة الرجاء ، وأن موعد الله تعالى لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ ، وأبلغه ، والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر قوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } لتقرير معناها في النفوس ، وتمكنها في القلوب ، وكما يكرر المفرد في قوله : «جاء زيد زيد » ، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيُسْرٍ [ لا محالة والثانية : عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر ]{[60464]} فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنَّما كان العسر واحداً لأنه لا يخلو ، إما أن يكون تعريفه للعهد ، وهو العسر الذي كانوا فيه ، فهو هو ، لأن حكمه حكم زيد في قولك : «إن مع زيد مالاً ، إن مع زيد مالاً » ، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد ، فهو هو أيضاً ، وأما اليسر ، فمنكر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر ، فقد تناول بعضاً غير البعض الأول بغير إشكال .

قال أبو البقاء{[60465]} : العسر في الموضعين واحد ؛ لأن الألف واللام توجب تكرير الأول ، وأما يُسْراً في الموضعين ، فاثنان ، لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء بضميرها ، أو بالألف واللام ومن هنا قيل : «لَنْ يَغْلِبَ عُسرٌ يُسرَيْنِ » .

وقال الزمخشريُّ{[60466]} أيضاً : فإن قلت : «إن «مَعَ » للصحبة ، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر ؟ قلت : أراد أن الله - تعالى - يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب ، فقرب اليسر المترقب ، حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية ، وتقوية للقلوب .

وقال أيضاً فإن قلت : فما معنى هذا التنكير ؟ .

قلت : التفخيم ، كأنه قيل : إنّ مع العسر يسراً عظيماً ، وأي يسر ، وهو في مصحف ابن مسعود{[60467]} مرة واحدة .

فإن قلت : فإذا أثبت في قراءته غير مكرر فلم قال : والذي نفسي بيده لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر ، حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين ؟ .

قلت : كأنه قصد اليسرين ، وأما في قوله : «يُسْراً » من معنى التفخيم ، فتأوله بيسر الدَّارين ، وذلك يسران في الحقيقة .

فصل في تعلق هذه الآية بما قبلها

تعلق هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم فعيَّره المشركون بفقره ، حتى قالوا له : نجمع لك مالاً ، فاغتم لذلك ، وظن أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيراً عندهم ، فعدد الله - تعالى - عليه منته بقوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } ، أي : ما كنت فيه من أمر الجاهلية ، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل في قلبه ما حصل فيه من التأذي ، بكونهم عيَّروه بالفقر ، فقال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } فعطفه بالفاء أي : لا يحزنك ما عيروك به في الفقر ، فإن ذلك يسراً عاجلاً في الدنيا فأنجز له ما وعده ، فلم يمت ، حتى فتح عليه «الحجاز » ، و «اليمن » ووسع عليه ذات يده ، حتَّى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، وترك لأهله قوت سنته ، وهذا وإن كان خاصاً بالنبي - عليه الصلاة والسلام - فقد يدخل فيه بعض أمته صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى .


[60461]:ينظر: المحرر الوجيز 5/497، والبحرالمحيط 8/484، والدر المصون 6/541.
[60462]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/628)، عن الحسن وقتادة مرسلا وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/616)، عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. وذكره أيضا عن الحسن وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن مردويه وعبد الرزاق والبيهقي. وأخرجه الحاكم (2/528)، عن الحسن مرسلا. والحديث أخرجه ابن مردويه عن جابر مرفوعا كما في "الدر المنثور" (6/616). وأخرجه الطبري (12/629) عن ابن مسعود موقوفا وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/616-617) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "الصبر" وابن المنذر والبيهقي في "شعب الإيمان".
[60463]:ينظر الكشاف 4/771.
[60464]:سقط من أ.
[60465]:ينظر: الإملاء 2/289.
[60466]:الكشاف 4/771.
[60467]:ينظر: السابق، والمحرر الوجيز 5/497، الدر المصون 6/542.