{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ْ } أي : بالعدل الذي ترضون أن تعطوه ، { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ْ } أي : لا تنقصوا من أشياء الناس ، فتسرقوها بأخذها ، بنقص المكيال والميزان .
{ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ْ } فإن الاستمرار على المعاصي ، يفسد الأديان ، والعقائد ، والدين ، والدنيا ، ويهلك الحرث والنسل .
ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية :
( ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ) . .
وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما ، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة .
وللعبارات ظل في الحس . وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص ، فهو أكثر سماحة ووفاء .
( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) . .
وهذه أعم من المكيلات والموزونات . فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع . تقويمها كيلا أو وزنا أو سعرا أو تقديرا . وتقويمها ماديا أو معنويا . وقد تدخل في ذلك الأعمال والصفات . لأن كلمة " شيء " تطلق أحيانا ويراد بها غير المحسوسات .
وبخس الناس أشياءهم - فوق أنه ظلم - يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد ، أو اليأس من العدل والخير وحسن التقدير . . وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر ، ولا تبقي على شيء صالح في الحياة .
( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . .
والعثو هو الإفساد ، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد ، قاصدين إلى تحقيقه . ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيل شعيب لقومه : أوفُوا الناس الكيل والميزان { بالقسط } ، يقول : بالعدل ، وذلك بأن توفّوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم على ما وجب لهم من التمام بغير بخس ولا نقص .
وقوله : { وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ } ، يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلاً أو وزنا أو غير ذلك . كما :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا علي بن صالح بن حيّ ، قال : بلغني في قوله : { وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ } ، قال : لا تنقصوهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ } ، يقول : لا تظلموا الناس أشياءهم .
وقوله : { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } ، يقول : ولا تسيروا في الأرض تعملون فيها بمعاصي الله . كماحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } ، قال : لا تسيروا في الأرض .
حُدثت عن المسيب ، عن أبي روق ، عن الضحاك : { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } . يقول : لا تسعوا في الأرض مفسدين ، يعني : نقصان الكيل والميزان .
{ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان } صرح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف ، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها . { بالقسط } بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان ، فإن الازدياد إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظورا . { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار ، أو في غيره وكذا قوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد . وقيل المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات ، والعثو السرقة وقطع الطريق والغارة . وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام . قيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم ومصالح آخرتكم .
وكرر عليهم الوصية في «الكيل والوزن » تأكيداً وبياناً وعظة لأن { لا تنقصوا } هو { أوفوا } بعينه . لكنهما منحيان إلى معنى واحد .
قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يعظ الناس في الكيل والوزن فقال : اعتبروا في أن الإنسان إذا رفع يده بالميزان فامتدت أصابعه الثلاث والتقى الإبهام والسبابة على ناصية الميزان جاء من شكل أصابعه صورة المكتوبة فكأن الميزان يقول : الله الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وعظ مليح مذكر . و { القسط } العدل ونحوه ، و «البخس » النقصان ، و { تعثوا } معناه : تسعون في فساد ، وكرر { مفسدين } على جهة التأكيد ، يقال عثا يعثو أو عثى يعثي ، وعث يعث ، وعاث يعيث - إذا أفسد ونحوه من المعنى ، العثة : الدودة التي تفسد ثياب الصوف{[6468]} .
إعادة النداء في جملة { ويا قوم أوفوا المكيال } لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها ، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان . وهذا الأمر تأكيد للنّهي عن نقصهما . والشيء يؤكد بنفي ضده ، كقوله تعالى : { وأضل فرعون قومه وما هدى } [ طه : 79 ] . لزيادة التّرغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده .
والباء في قوله { بالقسط } للملابسة . وهو متعلق ب { أوفوا } فيفيد أن الإيفاء يلابسه القسط ، أي العدل تعليلاً للأمر به ، لأنّ العدل معروف حسن ، وتنبيهاً على أنّ ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر .
والقسط تقدم في قوله تعالى : { قائماً بالقسط } في [ آل عمران : 18 ] .
والبخس : النقص . وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسراً . وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص . لأنّ التطفيف من بخس الناس في أشيائهم ، وتعدية { تبخسوا } إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا .
والعَثْيُ بالياء من باب سعَى ورمى ورضي ، وبالواو كدعا ، هو : الفساد .
ولذلك فقوله { مفسدين } حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد .
والمراد : النهي عن الفساد كله ، كما يدلّ عليه قوله : { في الأرض } المقصود منه تعميم أماكن الفساد .
والفساد تقدم في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } في أول سورة [ البقرة : 11 ] .
وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العامّ ، وبه حصلت خمسة مؤكدات : بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص ، ثم بالتّعميم بعد التخصيص ، ثم بزيادة التعميم ، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان ، ثمّ بتأكيده بالمؤكد اللفظي .
وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوح من الفساد فاشٍ فيهم وهو التطفيف . ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس . ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كلّه . وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال .
وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلابَ ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما ادّخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط}، يعني: بالعدل، {ولا تبخسوا الناس أشياءهم}، يعني: ولا تنقصوا الناس حقوقهم، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} يقول: لا تعملوا فيها المعاصي، يعني بالفساد نقصان الكيل والميزان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره، مخبرا عن قيل شعيب لقومه: أوفُوا الناس الكيل والميزان {بالقسط}، يقول: بالعدل، وذلك بأن توفّوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم على ما وجب لهم من التمام بغير بخس ولا نقص.
{وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ}، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلاً أو وزنا أو غير ذلك.
{وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ}، يقول: ولا تسيروا في الأرض تعملون فيها بمعاصي الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) خص المكيال والميزان لما كانوا يطففون المكيال وينقصون الميزان، رغبة فيهما، وفيهما يجري الربا لما ذكرنا.
(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) فيه دلالة أن المشتري يملك المبيع قبل أن يقبض لأنه قال: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) أضاف إلى الناس أشياءهم. فلو كان لا يملك لم تكن أشياء الناس إنما كانت أشياءه البائع فإنما نقص ماله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله: أوفوا؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي وتعييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، وجيء به مقيداً بالقسط: أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمراً بما هو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفي عليه أن ينوي بالوفاء بالقسط؛ لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. والعثي في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض.
ثم قال: {أوفوا المكيال والميزان} وهذا عين الأول.
ثم قال: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير؟ قلنا: إن فيه وجوها:
الوجه الأول: أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد، والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام.
والوجه الثاني: أن قوله: {ولا تنقصوا المكيال والميزان} نهي عن التنقيص وقوله: {أوفوا المكيال والميزان} أمر بإيفاء العدل، والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به، وليس لقائل أن يقول: النهي عن ضد الشيء أمر به، فكان التكرير لازما من هذا الوجه، لأنا نقول: الجواب من وجهين:
الأول: أنه تعالى جمع بين الأمر بالشيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقول: صل قرابتك ولا تقطعهم، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد.
الثاني: أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضا عن أصل المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق، ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات، وإنما منع من التطفيف، وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية، فلأجل إبطال هذا الخيال، منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثا: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان. ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء، فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة، بل في كل واحد منها فائدة زائدة. والوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: {ولا تنقصوا المكيال والميزان} وفي الثانية قال: {أوفوا المكيال والميزان} والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام، لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدرا زائدا على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاء: إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس.
فالحاصل: أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان، وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة.
{بالقسط} يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل.
ثم قال: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} والبخس هو النقص في كل الأشياء، وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص في المكيال والميزان، وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الأشياء. ثم قال: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. فإن قيل: العثو: الفساد التام فقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} جار مجرى أن يقال: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين. قلنا: فيه وجوه:
الأول: أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم. والثاني: أن يكون المراد من قوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} مصالح دنياكم وآخرتكم.
والثالث: ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والمقصود أن يصل كل ذي نصيب إلى نصيبه، وليس يريد إيفاء المكيل والموزون لأنه لم يقل: أوفوا بالمكيال وبالميزان، بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصَّنَجات...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
نُهُوا أولاً: عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه وهو نقص المكيال والميزان...
وأُمِروا ثانياً: بإيفائهما مصرحاً بلفظهما ترغيباً في الإيفاء، وبعثا عليه...
ونُهُوا ثالثاً: عن نقص الناس أشياءهم، وهو عام في الناس، وفيما بأيديهم من الأشياء كانت مما تكال وتوزن أو غير ذلك...
ونُهُوا رابعاً: عن الفساد في الأرض وهو أعم من أن يكون نقصاً أو غيره.
فبدأهم أولاً بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة الله، ثم ارتقى إلى عامّ، ثم إلى أعم منه، وذلك مبالغةٌ في النصح لهم ولطفٌ في استدراجهم إلى طاعة الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها، ولأن التصريح بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد، فقال مستعطفاً لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها: {ويا قوم} أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم {أوفوا} أي أتموا إتماماً حسناً {المكيال والميزان} أي، المكيل والموزون وآلتهما؛ وأكده بقوله: {بالقسط} أي العدل السوي، فصار الوفاء مأموراً به في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه وإظهاراً لعموم نفعه وشمول بركته، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه... ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال: {ولا تبخسوا} أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة {الناس أشياءهم} ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال: {ولا تعثوا في الأرض} أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم {مفسدين} أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة "عثى "بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة، من العيث -للأرض السهلة، فإنها لسهولتها يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل، ومنه التعييث- لطلب الأعمى الشيء؛ والأعثى: الأحمق الثقيل، ولون إلى السواد، والكثير الشعر، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه، وذلك هو معنى العثى؛ قال أئمة اللغة: عثى وعاث: أفسد، وفي مختصر العين للزبيدي: عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثاً، وهو الإسراع في الفساد، فالمعنى على ما قال الجمهور: ولا تفعلوا الفساد عمداً وهو واضح، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح، وعلى ما قال الزبيدي: ولا تسرعوا فيه، فلا يظن أنه يكون الإسراع حينئذ قيداً حتى ينصب النهي إليه، بل هو إشارة إلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة -والله أعلم؛ والوفاء: تمام الحق؛ والبخس: النقص، فهو أخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} لا ينسين القارئ ما تقدم من حكمة تكرار النداء بلقب قومي من الاستعطاف، وهذا أمر بالواجب بعد النهي عن ضده لتأكيده، وتنبيه لكون عدم التعمد للنقص لا يكفي لتحري الحق، بل يجب معه تحري الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص، وإن كان الثقة به لا تحصل أو لا تتيقن إلا بزيادة قليلة، فهي قد تدخل في باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وتعمدها في الكيل أو الوزن للناس سخاء فهو فضيلة مندوب، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة محظور.
{ولا تبخسوا الناس أشياءهم} هذا أعم مما سبقه فإن البخس يشمل النقص والعيب في كل شيء، يقال: بخسه [من باب نفع] حقه وبخسه ماله وبخسه علمه وفضله. والأشياء جمع شيء وهو أعم الألفاظ وجمعه يشمل ما للأفراد وما للجماعات والأقوام من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بالحدود الحسية ومن حقوق مادية ومعنوية، وقد فصلنا هذا وبينا العبرة فيه بتعامل أهل الشرق مع أهل الغرب في هذا العصر في تفسير سورة الأعراف [8: 58] فتراجع في الجزء الثامن.
{ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي ولا تفسدوا فيها حال كونكم متعمدين للإفساد، يقال عثي يعثي [كرضي يرضى] عثيا بكسرتين وتشديد الياء- وعثا يعثو [كغزا يغزو] عثوا بضمتين والتشديد أيضا – أفسد، وهذا نهي آخر عام يشمل غير ما تقدم كقطع الطرق وتهديد الأمن والخروج على السلطان وقطع الشجر وقتل الحيوان، وقيده بقصد الإفساد لأن بعض ما هو إفساد في الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين كالذي يقع في الحرب من قطع الأشجار، أو فتح سدود الأنهار، أو إحراق بعض الأشياء بالنار، ومنه خرق الخضر للسفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر لمنع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته. والإفساد تعطيل يشمل مصالح الدنيا وصفات النفس وأخلاقها وأمور الدين، وكل هذه المفاسد فاشية في هذا العصر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ْ} فإن الاستمرار على المعاصي، يفسد الأديان، والعقائد، والدين، والدنيا، ويهلك الحرث والنسل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط).. وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة. وللعبارات ظل في الحس. وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص، فهو أكثر سماحة ووفاء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إعادة النداء في جملة {ويا قوم أوفوا المكيال} لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان. وهذا الأمر تأكيد للنّهي عن نقصهما. والشيء يؤكد بنفي ضده، كقوله تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى} [طه: 79]. لزيادة التّرغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده. والباء في قوله {بالقسط} للملابسة. وهو متعلق ب {أوفوا} فيفيد أن الإيفاء يلابسه القسط، أي العدل تعليلاً للأمر به، لأنّ العدل معروف حسن، وتنبيهاً على أنّ ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر. وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص. لأنّ التطفيف من بخس الناس في أشيائهم، وتعدية {تبخسوا} إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا. والعَثْيُ بالياء من باب سعَى ورمى ورضي، وبالواو كدعا، هو: الفساد. ولذلك فقوله {مفسدين} حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد. والمراد: النهي عن الفساد كله، كما يدلّ عليه قوله: {في الأرض} المقصود منه تعميم أماكن الفساد. وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العامّ، وبه حصلت خمسة مؤكدات: بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص، ثم بالتّعميم بعد التخصيص، ثم بزيادة التعميم، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان، ثمّ بتأكيده بالمؤكد اللفظي. وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوح من الفساد فاشٍ فيهم وهو التطفيف. ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس. ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كلّه. وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال. وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلابَ ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما ادّخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الخلل الاقتصادي يفسد توازن المجتمع: {وَيا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} فللناس حقٌّ في أن تؤدّوا إليهم ما يستحقونه كاملاً من دون نقصان، تماماً كما تفكرون في حقوقكم على الناس عندما تتبايعون وتتشارون، فتطلبون منهم أن يؤدوا إليكم حقكم وافياً بجميع جهاته، {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءهمْ} لأن ذلك يعتبر نوعاً من أنواع السرقة والخيانة، فإنك إذا بعتَ إنساناً شيئاً، فإن البيع يوجب ملكيته له، فإذا أنقصت منه جزءاً، فإنك تكون سارقاً له، كما لو كان قد اشتراه من غيرك لأن النتيجة واحدة، {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} أي لا تفسدوا في الأرض، ولا تمارسوا أعمال الخيانة حال كونكم مفسدين، في مقام التأكيد على النهي عن الفساد. إن من المفروض على الإنسان المؤمن الذي يوحّد الله في العبادة، أن يخضع له في ما يفرضه الخط الإلهي التشريعيّ، وقد أراد الله للإنسان أن يعتبر الدور الموكول إليه هو إصلاح الأرض بنشر العدل والأمانة والخير والسلام، قولاً وفعلاً، فإذا مارس الفساد في نشاطاته العامة والخاصة، فإنه يكون قد خان دوره أمام الله. وهكذا أراد شعيب من قومه أن يتحركوا ضمن هذا الخط الذي ينهاهم عن الفساد، وأبرز مظاهره، أي التطفيف في المكيال والميزان باعتبار أن الخلل الاقتصادي في الأمة، يُفسد توازن المجتمع، ويفقده أساس الثقة، بنسفه القاعدة الأخلاقية التي ترتكز عليها حركة الاقتصاد، ولا يبقى هناك أيّة ضمانة للطمأنينة والسلام، وعلى هذا الأساس فإن التطفيف لا يمثل بنفسه خطورةً كبيرةً، إلا بما يكمن خلفه من خللٍ في القاعدة الأخلاقية العامة التي يرتكز عليها الفكر والسلوك وقد جاءت هذه الآية تأكيداً للفكرة وتوسيعاً لها، وضرباً للقاعدة، بعدما كانت الآية الأولى إشارةً للجانب السلبيّ منها في إطاره المحدود...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والآية الأُخرى تؤكّد على نظامهم الاقتصادي، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إلى إِيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط). ويجب أن يحكم هذا الأصل «وهو إقامة القسط والعدل، وإِعطاء كل ذي حقّ حقه» على مجتمعكم بأسره. ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) و«البخس» ومعناه في اللغة التقليل، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً. ويطلق على الأراضي المزروعة دون سقي «إِنّها بخس» لأنّ ماءها قليل، حيث تعتمد على ماء المطر فحسب، أو أنّ هذه الأراضي قليلة الإِنتاج بالنسبة إلى الأراضي الزراعية الأُخرى. وإذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة إلى رعاية جميع الحقوق الفردية والاجتماعية ولجميع الملل والنحل، ويظهرُ «بخس الحق» في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحياناً، والتعاون وإِعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا). ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً أُخرى أوسع ويقول لقومه: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والاعتداء على حقوق الآخرين، والفساد أيضاً يقع في الإِخلال بالموازين والمقاييس الاجتماعية، ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالاعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس. وجملة (لا تعثوا) معناها «لا تفسدوا» بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع. إِنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء، وهي أنّه بعد الاعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح، يُنظر إلى الاقتصاد السليم بأهمية خاصّة، كما تدلاّن على أنّ الإِخلال بالنظام الاقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع...