مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (85)

ثم قال : { أوفوا المكيال والميزان } وهذا عين الأول . ثم قال : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير ؟

قلنا : إن فيه وجوها :

الوجه الأول : أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد ، والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام .

والوجه الثاني : أن قوله : { ولا تنقصوا المكيال والميزان } نهي عن التنقيص وقوله : { أوفوا المكيال والميزان } أمر بإيفاء العدل ، والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به ، وليس لقائل أن يقول : النهي عن ضد الشيء أمر به ، فكان التكرير لازما من هذا الوجه ، لأنا نقول : الجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء ، وبين النهي عن ضده للمبالغة ، كما تقول : صل قرابتك ولا تقطعهم ، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد . الثاني : أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضا عن أصل المعاملة ، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق ، ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات ، وإنما منع من التطفيف ، وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية ، فلأجل إبطال هذا الخيال ، منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء ، وأما قوله ثالثا : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان . ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة ، بل في كل واحد منها فائدة زائدة .

والوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : { ولا تنقصوا المكيال والميزان } وفي الثانية قال : { أوفوا المكيال والميزان } والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام ، لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدرا زائدا على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاء : إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس . فالحاصل : أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان ، وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا لتحصل له تلك الزيادة ، وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله : { بالقسط } يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل . ثم قال : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } والبخس هو النقص في كل الأشياء ، وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص في المكيال والميزان ، وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الأشياء . ثم قال : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } .

فإن قيل : العثو الفساد التام فقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } جار مجرى أن يقال : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين .

قلنا : فيه وجوه : الأول : أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم . والثاني : أن يكون المراد من قوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } مصالح دنياكم وآخرتكم . والثالث : ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان .