اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (85)

قوله : { ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط } أي : بالعدل .

فإن قيل : وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } ثم قال { أَوْفُواْ المكيال والميزان } ، وهو عين الأول ، ثم قال : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } ، وهو عين الأوَّل ، فما فائدة التَّكرارِ ؟ .

فالجواب من وجوه :

الأول : أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل ، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد ، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام .

الثاني : قوله : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } نهي عن التنقيص ، وقوله : { أَوْفُواْ المكيال والميزان } أمر بإيفاء العدل ، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده ، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر ، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه ، لأنَّا نقول : الجوابُ من وجهين :

أحدهما : أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء ، وبين النهي عن ضده للمبالغة ، كما تقولُ : صل قرابتك ، ولا تقطعهم ؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد .

وثانيهما : ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم ؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة ، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات ، ولم ينه عن المبايعات ، وإنَّما منع من التطفيف ، ومنع الحقوق ، فكانت المبايعات محرمة بالكلية ، لأجل هذا منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء ، وأما قوله ثالثاً : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان . ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء ، فدل ذلك على أنها غير مكررة ، بل في كل واحدة فائدة زائدة .

الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } وفي الثانية قال : { أَوْفُواْ المكيال والميزان } والإيفاءُ : عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام ، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ : إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس .

فالحاصلُ : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان ، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة ، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة ، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض .

وقوله : " بالقسط " يعني : بالعدلِ ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل .

والبخس : هو النَّقْصُ .

ثم قال : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } .

فإن قيل : العثوُّ : الفسادُ التَّامُّ ، فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } جار مجرى قولك : ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين .

فالجوابُ من وجوه :

الأول : أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير ، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير ، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم .

والثاني : أن يكون المرادُ من قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } مصالح دنياكم وآخرتكم .

والثالث : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } مصالح الأديان والشرائع .