ولهذا أمر الله رسوله ، أن يقول لهم : إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم على الحق ، وأولياء الله : { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } وهذا أمر خفيف ، فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي جعله الله دليلاً على صدقهم إن تمنوه ، وكذبهم{[1097]} إن لم يتمنوه ولما لم يقع منهم مع الإعلان لهم بذلك ، علم أنهم عالمون ببطلان ما هم عليه وفساده ، ولهذا قال : { وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي من الذنوب والمعاصي ، التي يستوحشون من الموت من أجلها ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } فلا يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء .
ثم عقب على هذا التحدي بما يفيد أنهم غير صادقين فيما يدعون ، وأنهم يعرفون أنهم لم يقدموا بين أيديهم ما يطمئنون إليه ، وما يرجون الثواب والقربى عليه ، إنما قدموا المعصية التي تخيفهم من الموت وما وراءه . والذي لم يقدم الزاد يجفل من ارتياد الطريق :
( ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ) . .
قال الله تعالى : { وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : بما يعلمون لهم{[28818]} من الكفر والظلم والفجور ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وقد قدمنا في سورة " البقرة " الكلام على هذه المباهلة لليهود ، حيث قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ البقرة : 94 - 96 ] وقد أسلفنا الكلام هناك وبينا أن المراد أن يدعوا على الضال{[28819]} من أنفسهم أو خصومهم ، كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [ آل عمران : 61 ] ومباهلة المشركين في سورة مريم : { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } [ مريم : 75 ]
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد ، حدثنا فرات ، عن{[28820]} عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لعنه الله : إن رأيتُ محمدا عند الكعبة لآتينَّه حتى أطأ على عُنُقه . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو فعل لأخذَته الملائكة عيانًا ، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من{[28821]} النار . ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا .
رواه البخاري والترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن عبد الكريم ، [ به ] {[28822]} {[28823]} قال البخاري : " وتبعه{[28824]} عمرو بن خالد ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم " . ورواه النسائي ، أيضا عن عبد الرحمن بن عبد الله الحلَبِي ، عن عبيد الله بن عمرو الرقي ، به أتم{[28825]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَتَمَنّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَلا يَتَمَنّوْنَهُ أبَدا يقول : ولا يتمنى اليهود الموت أبدا بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ يعني : بما اكتسبوا في هذه الدنيا من الاَثام ، واجترحوا من السيئات وَاللّهُ عَلِيمٌ بالظّالِمِينَ يقول : والله ذو علم بمن ظلم من خلقه نفسه ، فأوبقها بكفره بالله .
أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يتمنونه ولا يلقونه إلا كرهاً لعلمهم بسوء حالهم عند الله وبعدهم منه . هذا هو المعنى اللازم من ألفاظ الآية ، وروى كثير من المفسرين أن الله تعالى جعل هذه الآية معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيهم ، وآية باهرة ، وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودة مات وفارق الدنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تمنوا الموت » على جهة التعجيز وإظهار الآية ، فما تمناه أحد خوفاً من الموت ، وثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم{[11092]} .
اعتراض بين جملتي القولين قصد به تحديهم لإِقامة الحجة عليهم أنهم ليسوا أولياء لله .
وليس المقصود من هذا معذرة لهم من عدم تمنيهم الموت وإنما المقصود زيادة الكشف عن بطلان قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وإثبات أنهم في شك من ذلك كما دل عليه استدلال القرآن عليهم بتحققهم أن الله يعذبهم بذنوبهم في قوله تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم } . وقد مرّ ذلك في تفسير سورة العقود ( 18 ) .
والباء في { بما قدمت أيديهم } سببية متعلقة بفعل { يتمنونه } المنفي فما قدمت أيديهم هو سَبب انتفاء تمنيهم الموت ألقى في نفوسهم الخوف مما قدمت أيديهم فكان سبب صرفهم عن تمنّي الموت لتقدم الحجة عليهم .
و ( ما ) موصولة وعائدة الصلة محذوف وحذفه أغلبي في أمثاله .
والأيدي مجاز في اكتساب الأعمال لأن اليد يلزمها الاكتساب غالباً . وَمَصْدَقُ « ما قدمت أيديهم » سيئاتهم ومعاصيهم بقرينة المقام .
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة وما ذكرتُه هنا أتم مما هنالك فاجمع بينهما .
والتقديم : أصله جعل الشيء مقدَّماً ، أي سابقاً غيرَه في مكان يقعوه فيه غيره . واستعير هنا لما سلف من العمل تشبيهاً له بشيء يسبِّقه المرء إلى مكان قبل وصوله إليه .
وجملة { والله عليم بالظالمين } ، أي عليم بأحوالهم وبأحوال أمثالهم من الظالمين فشمل لفظ الظالمين اليهود فإنهم من الظالمين . وقد تقدم معنى ظلمهم في الآية قبلها . وقد وصف اليهود بالظالمين في آيات كثيرة ، وتقدم عند قوله تعالى : { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } [ البقرة : 140 ] والمقصود أن إحجامهم عن تمنّي الموت لما في نفوسهم من خوف العقاب على ما فعلوه في الدنيا ، فكني بعلم الله بأحوالهم عن عدم انفلاتهم من الجزاء عليها ففي هذا وعيد لهم .