{ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ } أي : لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه ، وإنما أنا هاد مهتد ، بل هدايته عليه الصلاة والسلام من جنس هداية إخوانه ، أولي العزم من المرسلين ، أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها ، وهي هداية الرسالة التامة الكاملة ، ولهذا قال : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : ربي وربكم ورب جميع الخلق ، الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية ، الذي من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسلا تأمرهم بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها ، ولهذا قال : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال نوح لقومه مجيبا لهم : يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله وإفراده بالطاعة دون الأنداد والاَلهة زوالاً مني عن محجة الحقّ وضلالاً لسبيل الصواب ، وما بي ما تظنون من الضلال ، ولكني رسول إليكم من ربّ العالمين بما أمرتكم به من إفراده بالطاعة والإقرار له بالوحدانية والبراءة من الأنداد والاَلهة .
فصلت جملة : { قال } على طريقة فَصْل المحاورات . والنّداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر ، ولم يخصّ خطابَه بالذين جاوبوه ، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلّهم ، لأنّ جوابه مع كونه مجادلة للملأ من قومه هو أيضاً يتضمّن دعوة عامة ، كما هو بيِّن ، وتقدّم آنفاً نكتة التّعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره ، فأعاد ذلك مرّة ثانية استنزالاً لطائر نفوسهم ممّا سيَعقُب النّداء من الرد عليهم وإبطال قولهم { إنّا لنراك في ضلال مبين } [ الأعراف : 60 ] .
والضّلالة مصدر مثل الضّلال ، فتأنيثه لَفْظي محض ، والعرب يستشعرون التّأنيث غالباً في أسماء أجناس المعاني ، مثل الغواية والسّفاهة ، فالتّاء لمجرّد تأنيث اللّفظ وليس في هذه التّاء معنى الوحدة لأنّ أسماء أجناس المعاني لا تراعَى فيها المُشخّصات ، فليس الضّلال بمنزلة اسم الجمع للضّلالة ، خلافاً لِما في « الكشاف » ، وكأنَّه حاول إثبات الفرق بين قول قومه له { إنّا لنراك في ضلال } [ الأعراف : 60 ] ، وقوله هُو : { ليس بي ضلالة } وتبعه فيه الفخر ، وابن الأثير في « المثل السّائر » ، وقد تكلّف لتصحيحه التفتزاني ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنّ التّخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التّفنّن حيث سبق لفظ ضلال ، وموجب سبقه إرادة وصفه ب { مبين } [ الأعراف : 60 ] ، فلو عبّر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبيّنة غير مألوف الاستعمال ، ولما تقدّم لفظ { ضلال } [ الأعراف : 60 ] استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السّورة دفعاً لثقل الإعادة ؛ فقوله : { ليس بي ضلالة } ردّ لقولهم : { إنا لنراك في ضلال مبين } [ الأعراف : 60 ] بمساويه لا بأبلغ منه .
والباء في قوله : { بي } للمصاحبة أو الملابسة ، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهم { في ضلال } [ الأعراف : 60 ] فإنّهم جعلوا الضّلال متمكّنا منه ، فنفى هو أن يكون للضّلال متلبّس به .
وتجريد { ليس } من تاء التّأنيث مع كون اسمها مؤنّث اللّفظ جرى على الجواز في تجريد الفعل من علامة التّأنيث ، إذا كان مرفوعه غير حقيقي التّأنيث ، ولمكان الفصل بالمجرور .
والاستدراك الذي في قوله { ولكني رسول } لرفع ما توهّموه من أنّه في ضلال حيث خالف دينهم ، أي هو في حال رسالة عن الله ، مع ما تقتضي الرّسالة من التّبليغ والنّصح والإخبارِ بما لا يعلمونه ، وذلك ما حسبوه ضلالاً ، وشأن ( لكن ) أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها ، ولا تدلّ عليه الجملة السّابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعةُ له ( لكِنّ ) فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين : إما في المسند نحو { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكنّ الله سَلَّم } [ الأنفال : 43 ] أو في المسند إليه نحو { وما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى } [ الأنفال : 17 ] فلا يحسن أن تقول : ما سافرت ولكنّي مقيم ، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية ، لأنّ النّفي معنى واسع ، فيكثر أن يحتاج المتكلّم بعده إلى زيادة بيان ، فيأتي بالاستدراك ، ومن قال : إنّ حقيقة الاستدراك هو رفْعُ ما يتوَهَّم السّامع ثبوتَه أو نفيه فإنّما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ ، وليس مرادُهم أنّ حقيقة الاستدراك لا تتقوم إلاّ بذلك .
واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسِل : لما تؤذن به من تفخيم المُضاف ومن وجوب طاعته على جميع النّاس ، تعريضاً بقومه إذ عصوه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.