ولكن موسى - عليه السلام - الحريص على تعلم العلم النافع ، يصر على مصاحبة الرجل الصالح ، فيقول له فى لطف وأدب ، مع تقديم مشيئة الله - تعالى - : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } .
أى : قال موسى للخضر { سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً } معك ، غير معترض عليك ، ولا أعصى لك أمرا من الأمور التى تكلفنى بها .
وقدم موسى - عليه السلام - المشيئة ، أدبا مع خالقه - عز وجل - واستعانة به - سبحانه - على الصبر وعدم المخالفة .
{ قال ستجدني إن شاء الله صابرا } معك غير منكر عليك . { ولا أعصي لك أمرا } عطف على صابرا أي ستجدني صابرا وغير عاص ، أو على ستجدني . وتعليق الوعد بالمشيئة أما للتيمن وخلفه ناسيا لا يقدح في عصمته أو لعلمه بصعوبة الأمر ، فإن مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد فلا خلف ، وفيه دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى .
قوله : { ستجدني إن شاء الله صابراً } أبلغ في ثبوت الصبر من نحو : سأصبر ، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه . وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شأنه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في المتابعة ، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه ، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد .
ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمِر فيما يأمره به عطف عليه ما يفيد الطاعة إبلاغاً في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم .
فجملة { ولا أعصي لك أمراً } معطوفة على جملة { ستجدني } ، أو هو من عطف الفعل على الاسم المشتق عطفاً على { صابراً } فيؤوَّل بمصدر ، أي وغير عاص . وفي هذا دليل على أن أهم ما يتسم به طالب العلم هو الصبر والطاعة للمعلم .
وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله استعانةً به وحرصاً على تقدم التيْسير تأدباً مع الله إيذانٌ بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج ، لأن خلو ذهنه من العلم لا يحرجه من مشاهدة الغرائب ، إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها ، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم وجاء طالباً الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة . وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذ ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقَى من موسى هذه المعاملة فقال له : { إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } ، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره . والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعه لأن الله أخبره بأنه آتاه علماً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 68]
يقول عزّ ذكره مخبرا عن قول العالم لموسى: وكيف تصبر يا موسى على ما ترى مني من الأفعال التي لا علم لك بوجوه صوابها، وتقيم معي عليها، وأنت إنما تحكم على صواب المصيب وخطأ المخطئ بالظاهر الذي عندك، وبمبلغ علمك، وأفعالي تقع بغير دليل ظاهر لرأي عينك على صوابها، لأنها تُبتدأ لأسباب تحدث آجلة غير عاجلة، لا علم لك بالحادث عنها، لأنها غيب، ولا تحيط بعلم الغيب "خبرا "يقول علما. قال: "سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ صَابِرا" على ما أرى منك وإن كان خلافا لما هو عندي صواب.
"وَلا أعْصِي لَكَ أمْرا" يقول: وأنتهي إلى ما تأمرني، وإن لم يكن موافقا هواي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال ستَجِدُنِيَ إِنْ شاءَ اللهُ صابراً ولا أَعْصِي لكَ أَمْراً} يحتمل أن [تكون] الثُّنْيَا منه على الأمرين جميعا: على الصَّبْر الذي وَعَدَ، وعلى قوله: {ولا أَعْصِي لكَ أَمْراً}. ويشبه أن يكون على وعْد الصبرِ خاصةً دون قوله: {ولا أَعْصِي لك أمْراً} لأن قوله: {ولا أَعْصِي لك أَمْراً} عَهْدٌ منه، والثُّنْيَا لا تُستعمَل في العهود.
وأما قوله: {ستَجِدُنِيَ إنْ شاءَ اللهُ صابراً} إنما هو فِعلٌ أضافَه إلى نفسه، فلا بدّ مِن أن يَستثنِيَ فيه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فوعد بالصبر والطاعة ثم استثنى بمشيئة الله تعالى حذراً مما يلي فأطاع ولم يصبر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فقال له موسى (عليه السلام) عند ذلك "ستجدني "أي ستصادفني إن شاء الله صابرا، ولم يقل ذلك على وجه التكذيب، لكن لما أخبر به على ظاهر الحال فقيده بالمشيئة لله، لأنه جوز أن لا يصبر فيما بعد بأن يعجز عنه ليخرج بذلك من كونه كاذبا "ولا أعصي لك أمرا" أي لا أخالف أوامرك، ولا أتركها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبراً بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقاً بمشيئة الله، علماً منه بشدّة الأمر وصعوبته، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبيّ المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لا بدّ لما يستسمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: اسْتَثْنَى فِي التَّصَبُّرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا جَرَمَ وَجَّهَ مَا اسْتَثْنَى فِيهِ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ أَوْ يَقْتُلَ الْغُلَامَ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ، وَلَا نَازَعَهُ. وَخَالَفَهُ فِي الْأَمْرِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} أي موسى عليه السلام، آتياً بنهاية التواضع لِمَن هو أعلمُ منه، إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاءَ تسهيلِ الله له والنّفْعِ به: {سَتجدني} فَأكَّد الوعدَ بالسين؛ ثم أَخبر عنه سبحانه أنه قَوَّى تأكيدَه بالتبرُّك بذِكر الله تعالى لِعِلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تَقَدَّم الحَثُّ عليه في هذه السورة في قوله تعالى {ولا تَقولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعلٌ} الآية ليُعْلَم أنه منهاجُ الأنبياءِ وسبيلُ الرُّسلِ، فقال تعالى: {إنِ شاء الله} أي الذي له صفاتُ الكمال {صابراً} على ما يجوز الصّبرُ عليه؛ ثم زاد التأكيدَ بقوله عَطْفاً بالواو على "صابراً "لبيان التمكُّن في كلٍّ من الوصفين: {ولا أعصي} أي وغيرَ عاصٍ {لك أمراً} تأمُرُني به غيرَ مُخالِفٍ لِظاهرِ أمْرِ الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ستجدني إن شاء الله صابراً} أبلغ في ثبوت الصبر من نحو: سأصبر، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه. وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شأنه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في المتابعة، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد. ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمِر فيما يأمره به عطف عليه ما يفيد الطاعة إبلاغاً في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم...
وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله استعانةً به وحرصاً على تقدم التيْسير تأدباً مع الله إيذانٌ بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج، لأن خلو ذهنه من العلم لا يحرجه من مشاهدة الغرائب، إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم وجاء طالباً الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة. وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقَى من موسى هذه المعاملة فقال له: {إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً}، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره. والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعه لأن الله أخبره بأنه آتاه علماً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا} في ما يَصبِرُ عليه طالبُ المعرفة ويتحمّله من الجهد النفسي والعملي في سبيل الحصول عليها. إنه العزْم الذي يتحرك في إرادتي التي لا أَضمَن امتدادها في خط الالتزام العملي إلا بمشيئة الله... {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} كما هو دور التلميذ مع أستاذه الذي يثق بكفاءته وحُسنِ تقديره للأمور، وإخلاصِه في سبيل رفع مستواه...
ولكن العبد الصالح يريد أن يحدّد المسألة في دائرة الأسلوب العملي للمعرفة، فهو لا يريد أن يبادِر تلميذه بالمعرفة، ولا يريد له أن يبادره بالسؤال، بل يريد له أن يَتأمّل، ويثير الفكرة في داخله، ويحاول أن يتعمّق في القضايا من خلال المعاناة الفكرية التي تمنحه قوّةً عقلية متقدِّمة، كما يريد له أن يحصل على مَلَكة الصبر في مواجهة المشاكل الفكرية المعقّدة، فلا يَستعجِل الوصولَ إليها قبل توفُّر عناصر النضوج لديه، كي لا يتحوَّل إلى إنسانٍ سطحيٍّ في تفكيره...