روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا} (69)

{ قَالَ } موسى عليه السلام { سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله صَابِرًا } معك غير معترض عليك { وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً } عطف على { صَابِراً } والفعل يعطف على المفرد المشتق كما في قوله تعالى : { صافات وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] بتأويل أحدهما بالآخر ، والأولى فيما نحن فيه التأويل في جانب المعطوف أي ستجدني صابراً وغير عاص ، وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على { سَتَجِدُنِى } والجملة على الأول في محل نصب لأنها معطوفة على المفعول الثاني للوجدان ، وعلى الثاني لا محل لها من الإعراب على ما في الكشاف . واستشكل بأن الظاهر أن محلها النصب أيضاً لتقدم القول . وأجيب بأن مقول القول هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه فلا يكون لأجزائه محل باعتبار الأصل ، وقيل : مراد الزمخشري بيان حال العطف في القول المحكي عن موسى عليه السلام ، وقيل : مراده أنه ليس مؤولا بمفرد كما في الأول ، وقيل : إنه مبني على أن مقول القول محذوف وهذه الجملة مفسرة له ، والظاهر الجواب الأول ، وأول الوجهين في العطف هو الأولى لما عرفت ولظهور تعلق المعطوف بالاستثناء عليه . وذكر المشيئة إن كان للتعليق فلا اشكال في عدم تحقق ما وعد به .

ولا يقال : إنه عليه السلام أخلف وعده وإن كان للتيمن ، فإن قلنا : إن الوعد كالوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو إنه مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كان أردت أو إن لم يمنع مانع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال ، وإن قلنا : إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الاشكال ظاهراً فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق بمقام النبوة لمنافاته العصمة . وأجيب بأن ما صدر منه عليه السلام في المرتين الأخيرتين كانا نسياناً كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر . وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسياناً والثانية شرطاً والثالثة عمدا ، وفي رواية والثانية عمداً والثالثة فراقاً ، وقال بعضهم : لك أن تقول : لم يقع منه عليه السلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل ، وقال القشيري : إن موسى عليه السلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه السلام من الفعل وبان لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال : فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى ، وهو مبني على أن العطف على { سَتَجِدُنِي } وقد علمت أنه خلاف الأولى ، وأيضاً المراد بالصبر الثبات والإقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبئ عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه السلام ، وأيضاً يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفي ، وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه السلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه السلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين ، ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه ، وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال ، وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرق .

والمعتزلة اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر ، وقال بعض المحققين : إن الاستدلال جار أيضاً على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له ، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضاً فافهم ، وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر ، ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي بل أريد مطلق الطلب وحاصل الآية نفي أن يعصيه في كل ما يطلبه .

( هذا ومن باب الإشارة ) :قال : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] قال بعضهم : لو قال كما قال الذبيح عليه السلام : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] لوفق للصبر كما وفق الذبيح ، والفرق أن كلام الذبيح أظهر في الالتجاء وكسر النفس حيث علق بمشيئة الله تعالى وجد انه واحداً من جماعة متصفين بالصبر ولا كذلك كلام موسى عليه السلام