السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا} (69)

{ قال } له موسى عليه السلام آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل اللّه تعالى له النفع به { ستجدني } فأكد الوعد بالسين ثم أخبر تعالى أنه قوّي تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدّم الحق عليه في هذه السورة في قوله تعالى : { ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء اللّه } ليعلم أنه منهاج الأنبياء فقال : { إن شاء اللّه } أي : الذي له صفات الكمال { صابراً } على ما يجوز الصبر عليه ثم زاد التأكيد بقوله : عطفاً بالواو على صابراً لبيان التمكن في كل من الموضعين { ولا أعصي } أي : وغير عاص { لك أمراً } تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر اللّه تعالى .

تنبيه : دلت هذه الآية الكريمة على أنّ موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر ، منها أنه جعل نفسه تبعاً له بقوله : { هل أتبعك } ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية كأنه قال : هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك ؟ وهذه مبالغة عظيمة في التواضع ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : { على أن تعلمني } وهذا إقرار منه على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم ، ومنها قوله : { مما علمت } وصيغة من للتبعيض وطلب منه تعليم بعض ما علم ، وهذا أيضاً إقرار بالتواضع كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء ما علمت ، ومنها أن قوله : { مما علمت } اعتراف منه بأن اللّه تعالى علمه ذلك العلم ، ومنها قوله : { رشداً } طلب منه الإرشاد والهداية ، ومنها قوله : { ستجدني إن شاء اللّه صابراً ولا أعصي لك أمراً } ، ومنها أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أن موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه اللّه من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع ، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أبواب المبالغة في التواضع وذلك يدل على أن هذا هو اللائق به ، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر كان طلبه لها أشدّ ، فكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأرشد ، وكل ذلك يدل على أنّ الواجب على المتعلم إظهار التواضع بكل الغايات ، وأمّا المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيد نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإنّ السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور وذلك يمنعه من التعلم . وروي أن موسى لما قال : { هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً } قال له الخضر : كفى بالتوراة علماً وببني إسرائيل شغلاً ، فقال له موسى : اللّه أمرني بهذا .