{ 28 - 30 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }
يقول تعالى - مبينا حال المكذبين لرسوله من كفار قريش وما آل إليه أمرهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } ونعمة الله هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، يدعوهم إلى إدراك الخيرات في الدنيا والآخرة وإلى النجاة من شرور الدنيا والآخرة ، فبدلوا هذه النعمة بردها ، والكفر بها والصد عنها بأنفسهم .
{ و } صدهم غيرهم حتى { أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } وهي النار حيث تسببوا لإضلالهم ، فصاروا وبالا على قومهم ، من حيث يظن نفعهم ، ومن ذلك أنهم زينوا لهم الخروج يوم " بدر " ليحاربوا الله ورسوله ، فجرى عليهم ما جرى ، وقتل كثير من كبرائهم وصناديدهم في تلك الوقعة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مصير الجاحدين الذين قابلوا نعم الله بالكنود والجحود ، وأمر المؤمنين بأداء ما كلفهم به - سبحانه - من عبادات وقربات ، وساق لهم ألوانا من الآلاء التى تفضل بها على عباده ، فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ . . . } .
قوله - سبحانه - { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً . . } الخطاب فيه للنبى - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح للخطاب .
والاستفهام للتعجيب من أحوالهم الذميمة .
وبدلوا من التبديل بمعنى التغيير والتحويل ، والمراد به : وضع الشئ فى غير وضعه ومقابلة نعم الله بالجحود وعدم الشكر .
ونعمة الله التى بدلوها ، تشمل كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسله الله - تعالى - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور ، كما تشمل إكرام الله لهم - أى لهم مكة - بأن جعلهم فى حرم آمن ، وجعلهم سدنة بينة . . ولكنهم لم يشكروا الله على هذه النعم ، بل أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " قوله : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله } لأن شكرها الذى وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا .
وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوام بينه ، وأكرمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله بالنعمة فى الرخاء والسعة لإِيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، وكذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر ، قد ذهبت النعمة عنهم ، وبقى الكفر طوقا فى أعناقهم . . "
وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : " قال البخارى قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً . . } حدثنا على بن عبدالله حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، سمع ابن عباس قال : هم كفار أهل مكة .
ثم قال ابن كثير : وهذا هو الصحيح ، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار ، فإن الله - تعالى - " بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين ، ونعمة للناس ؛ فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل النار . . " .
وما ذهب إليه صاحب الكشاف وابن كثير - رحمهما الله - هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأن مشركى مكة ومن سار على شاكلتهم تنطبق عليهم هذه الآية الكريمة .
وقد أورد بعض المفسرين هنا روايات فى أن المراد بهؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفراً ، بنو أمية وبنو مخزوم . . ولكن هذه الروايات بعيدة عن الصواب ، ولا سند لها من النقل الصحيح .
وقوله { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } معطوف على { بدلوا } لبيان رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة والمراد بقومهم : أتباعهم وشركاؤهم فى الكفر والعناد حتى ماتوا على ذلك .
والبوار : الهلاك والخسران ، ويطلق أيضا على الكساد . يقال : بار المتاع بوارا ، إذا كسد ، إذ الكاسد فى حكم الهالك .
والمعنى : ألم تر - أيها العاقل - إلى حال هؤلاء المشركين ، الذين قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود ، وكانوا سببا فى إنزال قومهم دار الهلالك والخسران .
{[15936]}قال البخاري : قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } ألم تعلم ؟ كقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ } [ إبراهيم : 24 ] { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا } [ البقرة : 243 ] البوار : الهلاك ، بار يبور بَورًا ، و { قَوْمًا بُورًا } [ الفرقان : 18 ، الفتح : 12 ] هالكين .
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء سمع ابن عباس : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } قال : هم كفار أهل مكة{[15937]} .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : هو جبلة بن الأيهم ، والذين اتبعوه من العرب ، فلحقوا بالروم . والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول ، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار ؛ فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، ونعمة للناس ، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل النار .
وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل : أن ابن الكواء سأل عليا عن { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال : كفار قريش يوم بدر .
حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا بسام - هو الصيرفي{[15938]} - عن أبي الطفيل قال : جاء رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال : منافقو قريش .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل قال : قرأت على مَعْقِل ، عن ابن أبي حسين{[15939]} قال : قام علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : ألا أحد يسألني عن القرآن ، فوالله لو أعلم اليوم أحدا أعلم مني به{[15940]} وإن كان من وراء البحار لأتيته . فقام عبد الله بن الكواء{[15941]} فقال : من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار ؟ فقال : مشركو قريش ، أتتهم نعمة{[15942]} الله : الإيمان ، فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار .
وقال العدوي في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } الآية ، ذكر مسلم المستوفي{[15943]} عن علي أنه قال : هم الأفجران من قريش : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر ، وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد . وكان أبو جهل يوم بدر ، وأبو سفيان يوم أحد . وأما دار البوار فهي جهنم .
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا الحارث بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت عليا قرأ هذه الآية : { وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال : هم الأفجران من قريش : بنو أمية وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتِّعوا إلى حين .
ورواه أبو إسحاق ، عن عمرو بن مرة ، عن علي ، نحوه ، وروي من غير وجه عنه .
وقال سفيان الثوري ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن سعد ، عن عمر بن الخطاب ، في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكُفيتمُوهُم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين .
وكذا رواه حمزة الزيات ، عن عمرو بن مرة قال : قال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، هذه الآية : { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال : هم الأفجران من قريش : أخوالي وأعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر ، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة بن زيد{[15944]} هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع ، عن ابن عمر .
وقوله : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } الآية ، هذا تنبيه على مثال من ظالمين أضلوا ، والتقدير : بدلوا شكر نعمة الله كفراً ، وهذا كقوله : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون }{[7074]} [ الواقعة : 82 ] .
و { نعمة الله } المشار إليها في هذه الآية هو محمد عليه السلام ودينه ، أنعم الله به على قريش ، فكفروا النعمة ولم يقبلوها ، وتبدلوا بها الكفر .
والمراد ب { الذين } كفرة قريش جملة - هذا بحسب ما اشتهر من حالهم - وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين . وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب : أنها نزلت في الأفجرين من قريش : بني مخزوم وبني أمية . قال عمر : فأما بنو المغيرة فكفوا يوم بدر{[7075]} . وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، وقال ابن عباس : هذه الآية في جبلة بن الأيهم{[7076]} .
قال القاضي أبو محمد : ولم يرد ابن عباس أنها فيه نزلت لأن نزول الآية قبل قصته ، وإنما أراد أنها تحصر من فعل جبلة إلى يوم القيامة .
وقوله : { وأحلوا قومهم } أي من أطاعهم ، وكان معهم في التبديل ، فكأن الإشارة والتعنيف إنما هي للرؤوس والأعلام ، و { البوار } الهلاك ، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب .
يا رسول المليك إن لساني . . . فاتقٌ ما رتَقْتَ إذ أنا بُور{[7077]}
قال الطبري : وقال هو وغيره : إنه يروى لابن الزبعرى .
ويحتمل أن يريد ب { البوار } : الهلاك في الآخرة ففسره حينئذ بقوله : { جهنم يصلونها } ، يحترقون في حرها ويحتملونه ، ويحتمل أن يريد ب { البوار } : الهلاك في الدنيا بالقتل والخزي فتكون «الدار » قليب بدر ونحوه . وقال عطاء : نزلت هذه الآية في قتلى بدر .
قال القاضي أبو محمد : فيكون قوله : { جهنم } نصباً ، على حد قولك : زيداً ضربته ، بإضمار فعل يقتضيه الظاهر .