وقوله : { أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } بمنزلة التعليل لما قبله مع تقدير لام التعليل المحذوفة .
أى : تكاد السموات يتفطرن والأرض تتشقق ، والجبال تنهد ، لأن هؤلاء الضالين قد زعموا أن الله - تعالى - ولدا ، والحال أنه ما يصح أن يتخذ الرحمن ولدا ، لأنه - سبحانه - غنى عن العالمين .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " إن قلت : ما معنى هذا التأثر من أجل هذه الكلمة ؟
قلتك فيه وجهان : أحدهما أن الله - سبحانه - يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من تفوه بها . . . لولا أنى لا أعجل بالعقوبة . . . .
والثانى : أن يكون استعظاماً للكلمة ، وتهويلاً من فظاعتها وتصويراً لأثرها فى الدين ، وهدمها لأركانه وقواعده ، وأن مثال ذلك الأثر فى المحسوسات : أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التى هى قوام العالم : ما تنفطر منه وتنشق وتخر . . . " .
وقال الإمام القرطبى : " نفى عن نفسه - سبحانه وتعالى - الولد ، لأن الولد يقتضى الجنسية والحدوث . . . ولا يليق به ذلك ، ولا يوصف به ، ولا يجوز فى حقه . . .
وروى البخارى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله - تبارك وتعالى - كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمنى ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياى فقوله : لن يعيدنى كما بدأنى . وليس أول الخلق بأهون على من إعادته .
وأما شتمه إياى قوله : اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " .
وقوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } أي : يكاد يكون ذلك عند سماعهن{[19148]} هذه المقالة من فجرة بني آدم ، إعظامًا للرب وإجلالا ؛ لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه لا شريك له ، ولا نظير له ولا ولد له ، ولا صاحبة له ، ولا كفء له ، بل هو الأحد الصمد :
وفي كُلّ شَيءٍ له آيةٌ *** تَدُل على أنه واحِدُ
قال ابن جرير : حدثني علي ، حدثنا عبد الله ، حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } قال : إن الشرك{[19149]} فزعت منه السماوات والأرض والجبال ، وجميع الخلائق إلا الثقلين ، فكادت أن تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك ، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله ، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة " . قالوا : يا رسول الله ، فمن قالها في صحته ؟ قال : " تلك أوجب وأوجب " . ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لو جيء بالسماوات والأرضين{[19150]} وما فيهن ، وما بينهن ، وما تحتهن ، فوضعن في كفة الميزان ، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى ، لرجحت بهن " {[19151]}
هكذا رواه ابن جرير ، ويشهد له حديث البطاقة ، والله أعلم .
وقال الضحاك : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي : يتشققن فَرَقًا{[19152]} من عظمة الله .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَتَنْشَقُّ الأرْضُ } أي : غضبًا لله ، عز وجل .
{ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } قال ابن عباس : هدمًا .
وقال سعيد بن جبير : { هَدًّا } ينكسر بعضها على بعض متتابعات .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن سُوَيْد المقبري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا مسعر ، عن عون بن{[19153]} عبد الله قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه : يا فلان ، هل مر بك اليوم ذاكرُ الله عز وجل{[19154]} ؟ فيقول : نعم ، ويستبشر . قال عون : لهي{[19155]} للخير أسمع ، أفيسمعن{[19156]} الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن{[19157]} غيره ، ثم قرأ : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا }{[19158]}
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا هَوْذَة ، حدثنا عوف ، عن غالب بن عَجْرَد ، حدثني رجل من أهل الشام في مسجد مِنَى قال : بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر ، لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة - أو قال : كان لهم فيها منفعة - ولم تزل الأرض والشجر بذلك ، حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة ، قولهم : { اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض ، وشكاك الشجر .
وقال كعب الأحبار : غضبت الملائكة ، واستعرت النار{[19159]} ، حين قالوا ما قالوا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أحد{[19160]} أصبر على أذى يسمعه{[19161]} من الله ، إنه يشرك به ، ويجعل له ولدًا ، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم " .
أخرجاه في الصحيحين{[19162]} وفي لفظ : " إنهم يجعلون له ولدًا ، وهو يرزُقُهم ويعافيهم " .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَن دَعَوْا لِلرّحْمََنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرّحْمََنِ أَن يَتّخِذَ وَلَداً * إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمََنِ عَبْداً } .
يقول تعالى ذكره : وتكاد الجبال أن تخرّ انقضاضا ، لأنْ دَعَوا للرحمن ولدا . ف «أن » في موضع نصب في قول بعض أهل العربية ، لاتصالها بالفعل ، وفي قول غيره في موضع خفض بضمير الخافض وقد بيّنا الصواب من القول في ذلك في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقال : أنْ دَعَوْا للرّحْمَنِ وَلَدا يعني بقوله : أنْ دَعَوْا : أن جعلوا له ولدا ، كما قال الشاعر :
ألا رُبّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحا وَإنْ تَغِبْ *** تَجِدْهُ بغَيْبٍ غيرَ مُنْتَصِحِ الصّدْرِ
أهْوَى لَهَا مِشْقَصا حَشْرا فَشَبْرَقَها *** وكنتُ أدْعُو قَذَاها الإثمِدَ القَرِدَا
{ أن دعوا للرحمان ولدا } يحتمل النصب على العلة ل { تكاد } أو ل { هدا } على حذف اللام وإفضاء الفعل إليه ، والجر بإضمار اللام أو بالإبدال من الهاء في منه والرفع على أنه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك { أن دعوا } ، أو فاعل { هدا } أي هدها دعاء الولد للرحمان وهو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين ، وإنما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكل ما دعي له ولدا ، أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان إذا انتسب إليه .
{ أن دَعوا للرحمان ولداً } متعلّق بكل مِن { يتفطرن ، وتنشق ، وتخرّ ، وهو على حذف لام الجرّ قبل ( أنْ ) المصدريّة وهو حذف مطرّد .
والمقصود منه تأكيد ما أفيد من قوله : { منه } ، وزيادةُ بيانٍ لمعادِ الضمير المجرور في قوله { منه } اعتناء ببيانه .
ومعنى { دَعَوا } : نسبوا ، كقوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] ، ومنه يقال : ادّعى إلى بني فلان ، أي انتسب . قال بَشامة بن حَزْن النهشلي :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أن دعوا للرحمن ولدا}، أن قالوا: للرحمن ولدا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله:"أنْ دَعَوْا": أن جعلوا له ولدا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "أن دعوا للرحمن ولدا "أي لأن دعوا، أو من أن دعوا، أو المعنى أن السموات تكاد ينفطرن والجبال تنهد والأرض تنشق لدعواهم لله ولدا، أي لتسميتهم له ولدا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... في اختصاص الرحمن وتكريره مرات من الفائدة أنه هو الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره. من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه: خلق العالمين، وخلق لهم جميع ما معهم... فمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني، طلباً للعموم والإحاطة بكل ما دعي له ولداً. أو من دعا بمعنى نسب،
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ} أي: من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات، أن يكون منها ما ذكر...
هذه هي العلة والحيثية التي من أجلها يكاد الكون كله أن يتزلزل ويثور غاضباً لهذه المقولة الشنيعة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} لأن هذه المخلوقات الكونية لا تتحمل الإساءة إلى الله في أيّ شيء يبتعد عن مستوى عظمته.