اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا} (91)

قوله : { أنْ دَعَواْ }{[22711]} في محله{[22712]} خمسة أوجه :

أحدها{[22713]} : أنه في محل نصب على المفعول من أجله ، قاله أبو البقاء{[22714]} ، والحوفي{[22715]} ، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه ، ويجوز أن يكون العامل " تَكَادُ " ، أو " تَخُرُّ " ، أو " هَدَّا " ، أي : تَهُدُّ لأن دعوا ، ولكن شرطُ النصب هنا{[22716]} مفقود ، وهو اتحاد{[22717]} " الفاعل في المفعول له والعامل فيه{[22718]} ، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في " أنْ " فقريب " {[22719]} . وقال الزمخشري : وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام " {[22720]} وإفضاء الفعل ، أي هدَّا أن دعوا " {[22721]} ، علل الخرور بالهدِّ ، والهدُّ{[22722]} بدعاء الولد للرحمن{[22723]} .

فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط{[22724]} الخافض . " وليس مفعولاً له صريحاً{[22725]} " .

الوجه الثاني : أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض " {[22726]} كما هو مذهب الخليل{[22727]} والكسائي{[22728]} .

والثالث : أنه بدل من الضمير في " مِنْهُ " {[22729]} كقوله :

عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً *** عَلى جُودهِ لضن{[22730]} بالمَاءِ حاتمِ{[22731]}

" بجر " حاتم " {[22732]} الأخير بدلاً من الهاء في " جوده " .

قال أبو حيان : وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين{[22733]} .

الوجه{[22734]} الرابع : أن يكون مرفوعاً ب " هَدَّا " . قال الزمخشري : أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن{[22735]} . قال أبو حيان : وفيه بعدٌ ، لأن الظاهر في " هَدَّا " أن يكون مصدراً توكيدياً ، والمصدر التوكيدي لا يعمل{[22736]} ، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً ، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً ، وأضربا{[22737]} زيداً ؟ على خلاف فيه{[22738]} ، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري ، أي : هدَّها دعاء الولد للرحمن{[22739]} .

فلا ينقاس{[22740]} ، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرئ القيس{[22741]} :

وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ *** يقُولونَ لا تَهْلَكْ أسّى وتجمَّلِ{[22742]}

أي : وقَفَ صَحْبِي{[22743]} .

الخامس : أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : الموجب لذلك دعاؤهم . كذا قدره أبو البقاء{[22744]} . و " دَعَا " يجوز أن يكون بمعنى سمَّى ، فيتعدى لاثنين ، ويجوز جر ثانيهما بالباء{[22745]} ، قال الشاعر :

دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ *** أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ

دَعَتْنِي أخَاهَا " بَعْدَمَا كَانَ بَيْنَنَا *** مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ{[22746]} " {[22747]}

وقول الآخر :

ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ *** تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ{[22748]}

وأولهما في الآية محذوف ، قال الزمخشري : طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد ، ويجوز أن يكون من " دَعَا " بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله- عليه السلام- : " مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ " {[22749]} ، وقول الشاعر :

إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب *** عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا{[22750]}

لأي : لا ننتَسِبُ إليه{[22751]} .

" يَنْبَغِي " {[22752]} مضارع انْبَغَى ، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى ، أي : طلب ، و " أنْ يتَّخِذَ " فاعله{[22753]} . وقد عد ابن مالك{[22754]} " يَنْبَغِي " في الأفعال التي لا تتصرف{[22755]} .

وهو مردودٌ عليه ، لأنه قد سُمِعَ فيه الماضي قالوا : انْبَغَى{[22756]} . وكرَّر لفظ " الرَّحْمَنِ " تنبيهاً على أنه - تعالى- هو الرحمنُ وحدهُ ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه{[22757]} .

فصل{[22758]}

قال ابن عباس{[22759]} وكعب : فَزِعَت السماوات والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول ، وغضبت الملائكةُ ، واستعرت جهنم حين قالوا : لله ولدٌ ، ثم نفى الله- تعالى{[22760]}- عن نفسه فقال :


[22711]:في ب: "أن دعوا للرحمن".
[22712]:في ب: في محل نصب من. وهو تحريف.
[22713]:في ب: الأول.
[22714]:التبيان 2/883، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن 2/63، البيان 2/173.
[22715]:تقدم.
[22716]:هنا: سقط من ب.
[22717]:في ب: وهو اتحاد الثاني.
[22718]:هذا الشرط – وهو اتحاد المفعول له بالمعلل به فاعلا، بأن يكون فاعل الفعل وفاعل المصدر واحدا – اشترطه المتأخرون، وخالفهم ابن خروف فأجاز النصب مع اختلاف الفاعل محتجا بنحو قوله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا} [الرعد: 12]، ففاعل الإراءة هو الله، وفاعل الخوف والطمع المخاطبون. وأجاب عنه ابن مالك في شرح التسهيل فقال: معنى "يريكم" يجعلكم ترون، ففاعل الرؤية على هذا هو فاعل الخوف والطمع، فمعنى ذلك أن الاتحاد في الفاعل قد يكون تقديريا. وأيضا فقد اشترط الأعلم والمتأخرون: اتحاد المفعول له بالعامل وقتا، بأن يكون زمن الفعل المعلل- بفتح اللام الأولى – والمصدر المعلّل – بكسرها – واحدا نحو جئتك رغبة فيك ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين، فيجوز عندهم النصب مع اختلاف الوقت نحو أكرمتك أمس طمعا غدا في معروفك، واختلاف الفاعل نحو جئتك محبتك إياي. شرح التصريح 1/3354، الهمع 1/194.
[22719]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22720]:في ب: وجود اللام وإبقاء الفعل. وهو تحريف.
[22721]:ما بين القوسين تكملة من الكشاف.
[22722]:في ب: علل الوجود بالخرور وبالهد والهدود. وهو تحريف.
[22723]:الكشاف 2/425.
[22724]:في ب: على إسقاط.
[22725]:وأبو حيان ضعف ما قاله الزمخشري هنا بقوله: (وهذا فيه بعد، لأن الظاهر أن (هدّا) لا يكون مفعولا بل مصدرا من معنى "وتخر" أو في موضع الحال) البحر المحيط 6/219.
[22726]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22727]:انظر الكتاب 3/126،127.
[22728]:انظر معاني القرآن للفراء 2/173.
[22729]:الكشاف 2/424-425.
[22730]:في ب: لنص. وهو تحريف.
[22731]:البيت من بحر الطويل، قاله الفرزدق، وهو في ديوانه (2/397) برواية: على ساعة لو كان في القوم حاتم *** على جوده ضنّت به نفس حاتم
[22732]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22733]:وهو قوله تعالى: {وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا} البحر المحيط 6/219.
[22734]:الوجه: سقط من ب.
[22735]:الكشاف 2/425.
[22736]:لأن من شروط عمل المصدر عمل الفعل أن يحل محله (أن والفعل، أو ما والفعل)، والمصدر المؤكد ليس كذلك، شرح الكافية 2/194-195، شرح التصريح 2/62.
[22737]:في الأصل: أضربن. وهو تحريف.
[22738]:أي أن المصدر النائب عن فعله اختلف فيه هل يعمل أم لا؟ فذهب ابن مالك إلى جواز إعماله، فـ (زيدا) في ضربا زيد منصوب بالمصدر عنده. وبالفعل المحذوف النائب عنه المصدر عند غير ابن مالك، لأن المصدر هنا إنما يحل محله الفعل وحده دون (أن) و(ما)، فتقدير المثال: اضرب زيدا. شرح التصريح 2/62.
[22739]:في ب: دعاء الرحمن للولد.
[22740]:في ب: فلا قياس.
[22741]:تقدم.
[22742]:البيت من بحر الطويل وهو من معلقة امرئ القيس، وهو في ديوانه (9) والبحر المحيط 6/219. المطيّ: الإبل، والواحدة مطيّة،/ وانتصب بقوله (وقوفا) وعمل هذا المصدر نادر، وهو الشاهد.
[22743]:البحر المحيط 6/219.
[22744]:التبيان 2/883.
[22745]:(دعا) إذا كانت بمعنى سمّى، فهي من الأفعال تتعدى إلى مفعولين أولهما بنفسهما، والثاني بحرف الجر، مثل دعوته بزيد، ويجوز حذف حرف الجر، ووصل الفعل إلى المفعول الثاني بنفسه، فنقول: دعوته زيدا، وهذه الأفعال هي: دعا، أمر، استغفر، اختار، كنى – بتخفيف النون – سمّى، صدق – بتخفيف الدال – زوج، كال، وزن. شرح جمل الزجاجي 1/305 – 306، شذور الذهب 369-376.
[22746]:ما بين قوسين سقط من الأصل واستدرك بالهامش.
[22747]:البيتان من بحر الطويل، قالهما عبد الرحمان بن الحكم. وقد تقدما.
[22748]:البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله وهو في مجاز القرآن (2/12). واللسان (دعا) برواية: ألا رب من تدعو نصيحا وإن تغب *** تجده بغيب غير منتصح الصدر وهو في الطبري 16/99، البحر المحيط 6/219. والشاهد فيه تعدّي (دعا) بمعنى (سمى) إلى مفعولين أولهما النائب عن الفاعل، والثاني (نصيحا).
[22749]:أخرجه مسلم (حج) 2/998، (عتق) 2/1147، بلفظ: (ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا) وأبو داود (أدب) 5/337، 339، الدارمي (سير) 2/244 أحمد 1/174، 4/187، 238، 5/267.
[22750]:البيت من بحر البسيط قاله بشامة بن حزن النهشلي. وقد تقدم.
[22751]:الكشاف 2/425.
[22752]:ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
[22753]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/63.
[22754]:تقدم.
[22755]:انظر التسهيل (247).
[22756]:قال أبو حيان: (وينبغي ليس من الأفعال التي لا تتصرف بل سمع لها الماضي قالوا: انبغى) البحر المحيط 6/219.
[22757]:انظر الفخر الرازي 21/255.
[22758]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22759]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/404.
[22760]:تعالى: سقط من ب.