وقوله - تعالى - : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أى : قوينا ملك داود ، عن طريق كثرة الجند التابعين له ، وعن طريق ما منحناه من هيبة ونصرة وقوة . .
{ وَآتَيْنَاهُ الحكمة } أى : النبوة ، وسعة العلم ، وصالح العمل ، وحسن المنطق .
{ وَفَصْلَ الخطاب } أى : وآتيناه أيضا الكلام البليغ الفاصل بين الحق والباطل ، وبين الصواب والخطأ ، ووفقناه للحكم بين الناس بطريقة مصحوبة بالعدل ، وبالحزم الذى لا يشوبه تردد أو تراجع .
الشد : الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه ، فيكون لقصد النفع كما هنا ، ويكون لقصد الضرّ كقوله : { واشدد على قلوبهم في سورة } [ يونس : 88 ] .
فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه .
وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت .
و { الحكمة } : النبوءة . والحكمة في الأعم : العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي ، وقد اشتمل كتاب « الزبور » على حِكَم جمَّة .
و { فصل الخطاب } : بلاغة الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان ، ووصف القول ب ( الفصل ) وصف بالمصدر ، أي فاصل . والفاصل : الفارق بين شيئين ، وهو ضدّ الواصل ، ويطلق مجازاً على ما يميز شيئاً عن الاشتباه بضده . وعطفه هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [ النبأ : 17 ] .
والمعنى : أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء ، وحسبك بكتابه « الزبور » المسمّى عند اليهود ب« المزامير » فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم .
وعن أبي الأسود الدؤلي : { فصل الخطاب } هو قولُه في خطبه « أما بعد » قال : وداود أول من قال ذلك ، ولا أحسب هذا صحيحاً لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية ، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود . فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر ، والإِضافة حقيقية . وأول من قال : « أما بعد » هو سحبان وائل خطيب العرب ، وقيل : { فصل الخطاب } القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإِضافته إلى الخطاب .
واعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّاباً ، وهو القائل : « إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة » ، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل ، وعَرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهباً فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحَمَام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة . وشدّ الله مُلك الإِسلام له ، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل ، وآتاه الحكمة ، وآتاه فصل الخطاب قال : « أوتيت جوامع الكَلِم واختصر لي الكلام اختصاراً » بَلْهَ ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته ، قال تعالى في وصف القرآن : { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [ الطارق : 13 - 14 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَشَدَدْنا مُلْكَهُ": اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدّد ملكه؛ فقال بعضهم: شدّد ذلك بالجنود والرجال...
وقال آخرون: كان الذي شدد به ملكه، أن أُعطِيَ هيبة من الناس له لقضية كان قضاها...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر أنه شَدّد ملك داود، ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له، ولا على هيبة الناس له دون الجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا، وجائز أن يكون كان بجميعها، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله، إذ لم يحصُرْ ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له.
وقوله: "وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ "اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عُني بها النبوّة...
وقال آخرون: عُني بها أنه علم السنن...
وقد بيّنا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: "وفَصْلَ الخِطابِ "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: عني به أنه علم القضاء والفهم به...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الخطاب، بتكليف المدّعي البينة، واليمين على المدّعَى عليه...
وقال آخرون: بل هو قولُ: أما بعد...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب، والفصل: هو القطع، والخطاب هو المخاطبة، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم، ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا، فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله محتملاً ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أيّ ذلك المرادُ، ولا ورد به خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت، فالصواب أن يعم الخبر، كما عمه الله، فيقال: أُوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال عامة أهل التأويل في قوله: {وشددنا ملكه}: لأنه كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفا من بني إسرائيل. لكن ليس في ما ذكروا كثير شد الملك وتقويته، إنما هو وصف ضعيف إلا أن يعنوا بما ذكروا كثرة أعوانه وأنصاره وفضل أتباعه وحواشيه، فعند ذلك يحتمل ما ذكروا من الحرس والحفظ.
وجائز أن يكون غير هذا أشبه له وأولى بما ذكر ملكه، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: شد ملكه مما ذكر من إلانة الحديد حتى كان يتخذ منه لباسا من الدروع وغيرها من أسباب الحرب والتأهب لها، وما يصلح للقتال ما لم يعط مثله لأحد سواه، فينقطع بذلك طمع الطامعين لهم في ذلك والراغبين في ملكه، ويأمن هو بذلك ذهابه، فهو شد ملكه.
والثاني: شد ملكه بما ذكر من تسخير الجبال له والطير والتسبيح معه وما ذكر من طاعة هذه الأشياء له والخضوع لأمره، فمن بلغ ملكه هذا المبلغ الذي وصف من طاعة من ذكره والتسخير له وعبادته لله تعالى، وطاعته لربه في نفسه حين قال عز وجل: {واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب} لم يقصد أحد من ملوك الأرض قصده، ولا طمع في زوال ملكه إليه بحال. فهذا أشبه أن يجعل تأويل شد ملكه الذي ذكر، مما قاله أهل التأويل.
{وآتيناه الحكمة} قال بعض أهل التأويل: أي النبوة {وفصل الخطاب} أي البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. لكن ليس في ما ذكروا من جعل البينة على المدعي وجعل اليمين على المنكر كثير منقبة وخصوصية إذ قد أعطينا نحن مثله، وقد ذكر على الخصوصية له، ثم جائز أن يكون ما ذكر من الحكمة التي أتاها له إحكام أمره في ما بينه وبين ربه في العبادة والطاعة له في كل وقت على ما وصفه حين قال: {ذا الأيد إنه أواب} أي ذا القوة والجهد في العبادة لله والطاعة له فيهم وإنزال كل منهم منزلة وتأليف قلوب بعضهم من بعض وجمعهم على دين واحد ومذهب واحد حتى لم يقع تنازع ولا خلاف. وعلى ذلك يخرج قوله عز وجل {وفصل الخطاب} أي قطع الخصومات في ما بينهم على التأليف والتلطيف وإيصال كل إلى حقه من غير أن يقع بينهم خشونة أو ضغن...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}:... وقال أبو العالية: العلم الذي لا تردّه العقول...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شددنا مُلْكَه بنصرنا له ودَفْعِنا البلاَءَ عنه، ويقال شدنا مُلْكَه بالعدل في القضية، وحُسْنِ السيرة في الرعية. ويقال شددنا ملكه بقبض أيدي الظَّلَمَة. ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين. ويقال شددنا مُلْكَه بأن رأى النصرةَ مِنَّا، وَتَبرَّأَ من حَوْلِه وقُوَّتِه. ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلُّونه على ما فيه صلاح مُلْكه. ويقال بِتَيَقُّظِه وحُسْنِ سياسته. ويقال بقبوله الحق من كلِّ أحد. ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات...
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}: أعطيناه الرُّشْدَ والصوابَ، والفَهْمَ والإصابة. ويقال العلم بنفْسِه وكيفية سياسة أمته. ويقال الثبات في الأمور والحكمة، وإِحكام الرأي والتدبُّر. ويقال صحبة الأبرار، ومجانبة الأشرار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وشددنا ملكه} عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة...
واختلف الناس في {فصل الخطاب}... والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن: {إنه لقول فصل} [الطارق: 13]،ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم».
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الشَّدُّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ، وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ...
{وآتيناه الحكمة} اعلم أنه تعالى قال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل، أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضى الطاقة البشرية، وأما العمل فهو أن يكون الإنسان آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة، فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخ والنقض فكانت في غاية الإحكام،
وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية، ولا تقبل النقض والنسخ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة...
{وفصل الخطاب}...لما بين الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله: {وآتيناه الحكمة} أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد، وأقول حقا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانا عظيما.
وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضا، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً، فكان كأنه قيل: كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه، قال: {وشددنا} أي بما لنا من العظمة {ملكه} بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك...، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال: {وآتيناه} أي بعظمتنا {الحكمة} أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها، فالحكمة العمل بالعلم.
ولما كان تمامه بقطع النزاع قال: {وفصل الخطاب} أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند، وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترئ أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الشد: الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه، فيكون لقصد النفع كما هنا، ويكون لقصد الضرّ كقوله: {واشدد على قلوبهم في سورة} [يونس: 88]، فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه، وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت...
والحكمة في الأعم: العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي.