ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله فرعون لموسى : { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } .
والبال فى الأصل : الفكر . تقول : خطر ببالى كذا ، أى : بفكرى وعقلى ، ثم أطلق على الحال التى يهتم بشأنها ، وهذا الإطلاق هو المراد هنا .
أى : قال فرعون بعد أن رد عليه موسى هذا الرد الحكيم : يا موسى فما حال القرون الأولى ، كقوم نوح وعاد وثمود . . . الذين كذبوا أنبياءهم ، وعبدوا غير الله - تعالى - الذى تدعونى لعبادته ؟
وسؤاله هذا يدل على خبثه ومكره ، لأنه لما سمع من موسى الجواب المفحم له على سؤاله السابق { مَن رَّبُّكُمَا ياموسى } أراد أن يصرف الحديث إلى منحى آخر يتعلق بأمور لا صلة لها برسالة موسى إليه وهى دعوته لعبادة الله - تعالى - وحده ، وإطلاق سراح بنى إسرائيل من الأسر .
ولذا رد عليه موسى - عليه السلام - بما يخرس لسانه ، ويبطل كيده ، فقال - كما حكى القرآن عنه - { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } .
وقال فرعون { فما بال القرون الأولى } يحتمل أن يريد محاجته بحسب ما تقدم من القول ومناقضته فيه ، فليس يتجه على هذا أن يريد ما بال القرون الأولى ولم يوجد أمرك عندها ، فرد موسى عليه السلام علم ذلك إلى الله تعالى ، ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام الأول والرجوع إلى سؤال موسى عن حالة من سلف من الناس روغاناً في الحجة وحيدة وقال «البال » الحال فكأنه سألهم عن حالهم كما جاء في الحديث «يهديكم الله ويصلح بالكم »{[8111]} وقال النقاش إنما قال فرعون { فما بال القرون الأولى } لما سمع مؤمن آله يا قوم { إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } [ غافر : 30 ] مثل دأب قوم نوح وعاد «{[8112]} الآية .
والبال : كلمة دقيقة المعنى ، تطلق على الحال المهمّ ، ومصدره البالة بتخفيف اللاّم ، قال تعالى : { كفّر عنهم سيّآتهم وأصلح بالهم } [ محمد : 2 ] ، أي حالهم . وفي الحديث " كل أمر ذي بال . . . " الخ ، وتطلق على الرأي يقال : خطر كذا ببالي . ويقولون : ما ألقى له بالاً ، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغيّة .
أراد فرعون أن يحاجّ موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملّة فرعون ، أي قرون أهل مصر ، أي ما حالهم ، أفتزعم أنّهم اتفقوا على ضلالة . وهذه شنشنة من لا يجد حجّة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه ، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى { قالوا أجِئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا } [ يونس : 78 ] .
ويجوز أن يكون المعنى أنّ فرعون أرَاد التشغيب على موسى حين نهضت حجّته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى : هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى : { أنّ العذاب على من كذّب وتولّى } [ طه : 48 ] ، فإذا قال : إنّهم في عذاب ، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى ، وإذا قال : هم في سلام ، نهضت حجّة فرعون لأنه متابع لدينهم ، ولأنّ موسى لمّا أعلمه بربّه وكان ذلك مشعراً بالخلق الأوّل خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير النّاس بعد الفناء ، فسأل : ما بال القرون الأولى ؟ ما شأنهم وما الخبر عنهم ؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال فرعون لموسى، إذ وصف موسى ربه جلّ جلاله بما وصفه به من عظيم السلطان، وكثرة الإنعام على خلقه والإفضال: فما شأن الأمم الخالية من قبلنا لم تقرّ بما تقول، ولم تصدّق بما تدعو إليه، ولم تخلص له العبادة، ولكنها عبدت الآلهة والأوثان من دونه، إن كان الأمر على ما تصف من أن الأشياء كلها خلقه، وأنها في نعمه تتقلّب، وفي مِنَنه تتصرف؟
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قال بعضهم: إنما سأله عن أعمالهم: فما أعمال القرون الأولى؟ فقال: {علمها عند ربي} أي أعمالهم {عند ربي}.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والقرن: أهل كل عصر مأخوذ من قرانهم فيه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ما بال القرون الأولى "وهي الأمم الماضية، وكان هذا السؤال منه معاياة لموسى.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(قال فما بال القرون الأولى) معناه: فما حال القرون الأولى، وأراد به ما حالهم فيما دعوتني إليه؟ وقيل: لما دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث سأل وقال: ما حال القرون الأولى في البعث؟ ويقال: إنه انصرف إلى هذا الكلام تعنتا، وعدولا عن الجواب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون، وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد، فأجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، لا يجوز على الله أن يخطئ شيئاً أو ينساه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال «البال» الحال فكأنه سأله عن حالهم..
... اعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوها؛
أحدها: أن موسى عليه السلام لما قرر على فرعون أمر المبدأ والمعاد قال فرعون: إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور: {فما بال القرون الأولى} ما أثبتوه وتركوه؟ فكان موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على إثبات الصانع قدح فرعون في تلك الدلالة بقوله إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد. وثانيها: أن موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولا في قوله: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} فقال فرعون: {فما بال القرون الأولى} فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا؟
وثالثها: وهو الأظهر أن فرعون لما قال: {فمن ربكما يا موسى} فذكر موسى عليه السلام دليلا ظاهرا وبرهانا باهرا على هذا المطلوب فقال: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} فخاف فرعون أن يزيد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال: {فما بال القرون الأولى} فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال: {علمها عند ربي في كتاب} ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال: {الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا} وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أصح الأقوال في معنى ذلك: أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول، لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال، {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} أي: لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئًا. يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئًا، تبارك وتعالى وتقدس، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} لما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف، ولا بدّ لهما من خالق وهادٍ، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا ربّ غيره. قال فرعون: فما بال القرون الأولى؟ فإنها لم تقرّ بالربّ الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات، ومعنى البال: الحال والشأن، أي ما حالهم وما شأنهم؟ وقيل: إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر لقومه أنه قد قهره بالحجة أي: ما حال القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث؟ فأجابه موسى، ف {قال عِلْمُهَا عِندَ رَبّي}.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
إن كنت رسولاً فأخبرني ما حال القرون الماضية من الحوادث المفصلات، صرف موسى عما يدعوه إليه ليترك، أو يضعف فيه أو يجد زلة في كلامه، أو يختبره لعله من القصاص الدارسين لأخبار الأوائل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والبال: كلمة دقيقة المعنى، تطلق على الحال المهمّ...
المعنى أنّ فرعون أرَاد التشغيب على موسى حين نهضت حجّته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى: هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى: {أنّ العذاب على من كذّب وتولّى} [طه: 48]، فإذا قال: إنّهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال: هم في سلام، نهضت حجّة فرعون لأنه متابع لدينهم، ولأنّ موسى لمّا أعلمه بربّه وكان ذلك مشعراً بالخلق الأوّل خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير النّاس بعد الفناء، فسأل: ما بال القرون الأولى؟ ما شأنهم وما الخبر عنهم؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي حالها ومآلها، وما صنع بها...قال بعض المفسرين: ليصرفه عن الحديث عن الله تعالى، وهو لا يريد السماع عن إله غيره. وإني أرى أن السؤال كان عن أمر ديني عند المصريين القدماء، إذ إن الديانة المصرية كانت تؤمن بالبعث، ولذا عنوا بالتحنيط لتبقى الأجسام كما هي، وتبعث كما هي، ولهم في ذلك أقوال بينة، حتى إن الكتاب المقدس لديهم هو "كتاب الموتى "يضعونه في قبر الميت الذي يموت، وهو كتاب يشتمل على فضائل الأخلاق، وعلى ما تلقنه الروح لتحسن الإجابة أمام محكمة الحساب في اليوم الآخر عندهم، وهو يعد الكتاب الأعلى عند قدماء المصرين، ويتعبدون بقراءته أحياء ويوضع في قبورهم عند موتهم...
وعلى ذلك إن سؤال فرعون لموسى عن حال القرون أي الأجيال، سؤال نابع من مذهبهم في الموتى، وإذا كان العرب يفضلون المصريين بأنهم في جاهليتهم كانوا يعرفون الله الخالق المنزه عن المشابهة للحوادث، ولكنهم يعبدون الأوثان معه، فالمصريون القدماء عرفوا البعث والحساب، الأمر الذي كان يجهله العرب ويقولون: {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} (الرعد 5).