{ 19 } { إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا }
[ أي : ] إن هذه الموعظة التي نبأ الله بها من أحوال يوم القيامة وأهواله{[1267]} ، تذكرة يتذكر بها المتقون ، وينزجر بها المؤمنون ، { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } أي : طريقا موصلا إليه ، وذلك باتباع شرعه ، فإنه قد أبانه كل البيان ، وأوضحه غاية الإيضاح ، وفي هذا دليل على أن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم ، ومكنهم منها ، لا كما يقوله الجبرية : إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم ، فإن هذا خلاف النقل والعقل .
ثم ختم - سبحانه - هذه التهديدات بقوله : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } .
واسم الإِشارة " هذه " يعود إلى الآيات المتقدمة ، المشتملة على الكثير من القوارع والزواجر .
والتذكرة : اسم مصدر بمعنى التذكير والاتعاظ والاعتبار . ومفعول " شاء " محذوف .
والمعنى : إن هذه الآيات التى سقناها لكم تذكرة وموعظة ، فمن شاء النجاة من أهوال يوم القيامة ، فعليه أن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وأن يتخذ بسبب إيامنه وعمله الصالح ، طريقا وسبيلا إلى ربه ورحمته ومغفرته .
والتعبير بقوله : { فَمَن شَآءَ اتخذ .
. . } ليس من قبيل التخبير ، وإنما المقصود به الحض والحث على سلوك الطريق الموصل إلى الله - تعالى - بدليل قوله - تعالى - قبل ذلك : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } أى : هذه الآيات تذكرة وموعظة ، فمن ترك العمل بها ساءت عاقبته ، ولم يكن من الذين سلكوا طريق النجاة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، - من أول السورة إلى هنا - يراها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم نداء فيه ما فيه من الملاطفة والمؤانسة ، وأمرته بأن يقوم الليل إلا قليلا متعبدا لربه ، كما أمرته بالصبر على أذى المشركين ، حتى يحكم الله - تعالى - بينه وبينهم .
كما يراها قد هددت المكذبين بأشد أنواع التهديد ، وذكرتهم بأهوال يوم القيامة ، وبما حل بالمكذبين من قبلهم ، وحرضتهم على سلوك الطريق المستقيم .
وأمام هذا الهول الذي يتمثل في الكون كما يتمثل في النفس يلمس قلوبهم لتتذكر وتختار طريق السلامة . . طريق الله . .
إن هذه تذكره ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . .
وإن السبيل إلى الله لآمن وأيسر ، من السبيل المريب ، إلى هذا الهول العصيب !
وبينما تزلزل هذه الآيات قوائم المكذبين ، تنزل على قلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والقلة المؤمنة المستضعفة إذ ذاك بالروح والثقة واليقين . إذ يحسون أن ربهم معهم ، يقتل أعدائهم وينكل بهم . وإن هي إلا مهلة قصيرة ، إلى أجل معلوم . ثم يقضى الأمر ، حينما يجيء الأجل ويأخذ الله أعداءه وأعداءهم بالنكال والجحيم والعذاب الأليم .
إن الله لا يدع أولياءه لأعدائه . ولو أمهل أعداءه إلى حين . . .
يقول تعالى : { إِنَّ هَذِهِ } أي : السورة { تَذْكِرَةٌ } أي : يتذكر بها أولو الألباب ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } أي : ممن شاء الله هدايته ، كما قيده في السورة الأخرى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ الإنسان : 30 ] .
الإشارة ب { هذه } يحتمل أن تكون إلى ما ذكر من الأنكال والجحيم والأخذ الوبيل ونحوه . ويحتمل أن تكون إلى السورة بأجمعها ويحتمل أن تكون إلى القرآن ، أي أن هذه الأقوال المنصوصة ، فيه ، { تذكرة } ، والتذكرة مصدر كالذكر . وقوله تعالى : { فمن شاء } الآية ، ليس معناه إباحة الأمر وضده ، بل يتضمن معنى الوعد والوعيد . والسبيل هنا : سبيل الخير والطاعة .
تذييل أي تذكرة لمن يتذكر فإن كان من منكري البعث آمن به وإن كان مؤمناً استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته ، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلاً .
والإِشارة ب { هذه } إلى الآيات المتقدمة من قوله : { إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم } [ المزمل : 15 ] .
وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجَهين به ابتداءً هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدًى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير ، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر عليها قال تعالى : { واصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] .
والتذكِرة : اسم لمصدر الذُكر بضم الذال ، الذي هو خطور الشيء في البال ، فالتذكرة : الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب ، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض .
وفرع على هذا التحريض التعريضيَّ تحريضٌ صريح بقوله : { فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً } أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربّه سبيلاً فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تَبق للمتغافل معذرة .
والإِتيان بموصول { من شاء } من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصل إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلاّ مشيئته ، لأن قوله : { إن هذه تذكرة } قرينة على ذلك . ومن هذا القبيل قوله تعالى : { وقل الحقُ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] . فليس ذلك إباحةً للإِيمان والكفر ولكنه تحريض على الإِيمان ، وما بعده تحذير من الكفر ، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط . ولذلك قال ابن عطية : ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد .
وفي تفسير ابن عرفة الذي كان بعض شيوخنا يحملها على أنه مخير في تعيين السبيل فمتعلق التخيير عنده أن يبين سبيلاً ما من السُبل قال : وهو حسن ، فيبقى ظاهر الآية على حاله من التّخيير اه .
وقد علمت ممّا قرّرناه أنه لا حاجة إليه وأن ليس في الآية شيء بمعنى التخيير . وفي قوله : { إلى ربّه } تمثيل لحال طالب الفوز والهُدى بحال السائر إلى ناصر أو كريم قد أريَ السبيلَ الذي يبلِّغه إلى مقصده فلم يبق له ما يعوقه عن سلوكه .