يذكر في هذا القرآن وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه بالعلم الواسع الكثير بدليل التنكير كما قال تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } الآية .
{ وَقَالا } شاكرين لربهما منته الكبرى بتعليمهما : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين أهل السعادة وأنهما كانا من خواصهم .
ولا شك أن المؤمنين أربع درجات : الصالحون ، ثم فوقهم الشهداء ، ثم فوقهم الصديقون ثم فوقهم الأنبياء ، وداود وسليمان من خواص الرسل وإن كانوا دون درجة أولي العزم [ الخمسة ] ، لكنهم من جملة الرسل الفضلاء الكرام الذين نوه الله بذكرهم ومدحهم في كتابه مدحا عظيما فحمدوا الله على بلوغ هذه المنزلة ، وهذا عنوان سعادة العبد أن يكون شاكرا لله على نعمه الدينية والدنيوية وأن يرى جميع النعم من ربه ، فلا يفخر بها ولا يعجب بها بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا ،
وبعد أن ساق - سبحانه - هذا الجانب من قصة موسى - عليه السلام - ، أتبع ذلك بالحديث عن جانب من النعم التى أنعم بها على نبيين كريمين من أنبيائه ، وهما داود وسليمان - عليهما السلام - فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ . . . } .
قوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } كلام مستأنف مسوق لتقرير قوله - تعالى - : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } إذ القرآن الكريم هو الذى قص الله - تعالى - فيه أخبار السابقين ، بالصدق والحق .
وداود هو ابن يسى ، من سبط يهوذا من بنى إسرائيل ، وكانت ولادته فى بيت لحم سنة 1085 ق . م - تقريباً - ، وهو الذى قتل جالوت ، كما قال - تعالى - : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ . . } وكانت وفاته سنة 1000 ق . م تقريباً .
وسليمان هو ابن داود - عليهما السلام - ولد بأورشليم حوالى سنة 1043 ق . م وتوفى سنة 975 ق . م .
وقد جاء ذكرهما فى سورتى الأنبياء وسبأ وغيرهما .
ويعتبر عهدهما أزهى عهود بنى إسرائيل ، فقد أعطاهما الله - تعالى - نعما جليلة .
والمعنى : والله لقد أعطينا داود وابنه سليمان علما واسعا من عندنا ، ومنحناهما بفضلنا وإحساننا معرفة غزيرة بعلوم الدين والدنيا .
أما داود فقد أعطاه - سبحانه - علم الزبور ، فكان يقرؤه بصوت جميل ، كما علمه صناعة الدروع . . قال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وأما سليمان فقد آتاه - سبحانه - ملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، وعلمه منطق الطير ، ورزق الحكم السديد بين الناس . قال - تعالى - : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } وقوله - سبحانه - { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } بيان لموقفهما من نعم الله - تعالى - عليهما ، وهو موقف يدل على حسن شكرهما لخالقهما .
والواو فى قوله { وَقَالاَ } للعطف على محذوف ، أى : آتيناهما علما غزيراً فعملا بمقتضاه وشكرا الله عليه ، وقالا : الحمد لله الذى فضلنا بسبب ما آتانا من علم ونعم ، على كثير من عباده المؤمنين ، الذين لم ينالوا ما نلنا من خيره وبره - سبحانه - .
قال صاحب الكشاف : " وفى الآية دليل على شرف العلم ، وإنافة محله . وتقدم حَمَلَتهِ وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم ، وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أونى فضلاً على كثير من عباد الله . . " .
وفى التعبير بقوله - تعالى - : { فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ . . } دلالة على حسن أدبهما ، وتواضعهما ، حيث لم يقولا فضلنا على جميع عباده .
( ولقد آتينا داود وسليمان علما . وقالا : الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) .
هذه هي إشارة البدء في القصة وإعلان الافتتاح . خبر تقريري عن أبرز النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان - عليهما السلام نعمة العلم . فأما عن داود فقد ورد تفصيل ما آتاه الله من العلم في سور أخرى . منها تعليمه الترتيل بمقاطع الزبور ، ترتيلا يتجاوب به الكون من حوله ، فتؤوب الجبال معه والطير ، لحلاوة صوته ، وحرارة نبراته ، واستغراقه في مناجاة ربه ، وتجرده من العوائق والحواجز التي تفصل بينه وبين ذرات هذا الوجود . ومنها تعليمه صناعة الزرد وعدة الحرب ، وتطويع الحديد له ، ليصوغ منه من هذا ما يشاء . ومنها تعليمه القضاء بين الناس ، مما شاركه فيه سليمان .
وأما سليمان ففي هذه السورة تفصيل ما علمه الله من منطق الطير وما إليه ؛ بالإضافة إلى ما ذكر في سور أخرى من تعليمه القضاء ، وتوجيه الرياح المسخرة له بأمر الله .
تبدأ القصة بتلك الإشارة : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما )وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة ، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم ، والحمد لله الذي فضلهما بها على كثير من عباده المؤمنين . فتبرز قيمة العلم ، وعظمة المنة به من الله على العباد ، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين .
ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار . وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله ، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره ، وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه ، وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه . فلا يكون العلم مبعدا لصاحبه عن الله ، ولا منسيا له إياه . وهو بعض مننه وعطاياه
والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد ، زائغ عن مصدره وعن هدفه . لا يثمر سعادة لصاحبه ولا للناس ، إنما يثمر الشقاء والخوف والقلق والدمار ، لأنه انقطع عن مصدره ، وانحرف عن وجهته ، وضل طريقه إلى الله . .
ولقد انتهت البشرية اليوم إ لى مرحلة جيدة من مراحل العلم ، بتحطيم الذرة واستخدامها . ولكن ماذا جنت البشرية حتى اليوم من مثل هذا العلم الذي لا يذكر أصحابه الله ، ولا يخشونه ، ولا يحمدون له ، ولا يتوجهون بعلمهم إليه ? ماذا جنت غير الضحايا الوحشية في قنبلتي " هيروشيما " . و " ناجازاكي " وغير الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الشرق والغرب ويتهددهما بالتحطيم والدمار والفناء ?
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان ، عليهما من الله السلام ، من النعم الجزيلة ، والمواهب الجليلة ، والصفات الجميلة ، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة ، والملك والتمكين التام في الدنيا ، والنبوة والرسالة في الدين ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام{[21980]} : أخبرني أبي ، عن جدي قال : كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عَبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان حَمْدُه أفضل من نعمته{[21981]} ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان ، عليهما السلام ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي فَضّلَنَا عَلَىَ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيمَانُ عِلْما وذلك علم كلام الطير والدوابّ ، وغير ذلك مما خصهم الله بعلمه وَقالا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي فَضّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ يقول جلّ ثناؤه : وقال داود وسليمان : الحمد لله الذي فضلنا بما خصنا به من العلم الذي آتاناه دون سائر خلقه من بني آدم في زماننا هذا على كثير من عباده المؤمنين به في دهرنا هذا .
كما كان في قصة موسى وإرساله إلى فرعون آياتٌ عبرةٌ ومَثَل للذين جحدوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في قصة سليمان وملكة سبأ وما رأته من آياته وإيمانها به مثَلٌ لعلم النبي صلى الله عليه وسلم وإظهارٌ لفضيلة ملكةِ سبأ إذ لم يصدها مُلكُها عن الاعتراف بآيات سليمان فآمنت به ، وفي ذلك مَثَل للذين اهتدَوْا من المؤمنين .
وتقديم ذكر داود ليبْنى عليه ذكر سليمان إذ كان ملكه ورثه من أبيه داود . ولأن في ذكر داود مثل لإفاضة الحكمة على من لم يكن متصدياً لها . وما كان من أهل العلم بالكتاب أيامَ كان فيهم أحبارٌ وعلماء ؛ فقد كان داود راعياً غَنَم أبيه ( يسِّي ) في بيت لحم فأمر الله شمويل النبيءَ أن يجعل داود نبيئاً في مدة ملك طالوت ( شاول ) . فما كان عجب في نبوءة محمد الأمي بين الأميين ليعلم المشركون أن الله أعطى الحكمة والنبوءة محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعلم ذلك من قبلُ ولكن في قومه من يعلم ذلك كما قال تعالى : { ما كنتَ تعلمُها أنتَ ولا قومُك من قبل هذا } [ هود : 49 ] ، فهذه القصة تتصل بقوله تعالى : { وإنك لَتُلَقّى القرآن من لدن حكيم عليم } [ النمل : 6 ] .
فيصح أن تكون جملة : { ولقد آتينا داود } معطوفاً على { إذ قال موسى لأهله } [ النمل : 7 ] إذا جعلنا ( إذ ) مفعولاً لفعل ( اذكر ) محذوف .
ويصح أن تكون الواو للاستئناف فالجملة مستأنفة . ومناسبة الذكر ظاهرة . وبعدُ ففي كل قصة من قصص القرآن علم وعبرة وأسوة .
وافتتاح الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين به منزلة من يتردد في ذلك لأنهم جحدوا نبوءة مثللِ داود وسليمان إذ قالوا : { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } [ سبأ : 31 ] .
وتنكير { علماً } للتعظيم لأنه علم بنبوءة وحكمة كقوله في صاحب موسى { وعلّمناه من لدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] .
وفي فعل { آتينا } ما يؤذن بأنه علم مفاض من عند الله ، لأن الإيتاءَ أخصّ من { علّمناه } فلذلك استغني هنا عن كلمة ( من لدنّا ) .
وحكاية قولهما { الحمد لله الذي فضلنا } كناية عن تفضيلهما بفضائل غير العلم . ألاَ ترى إلى قوله : { على كثير من عباده المؤمنين } ومنهم أهلُ العلم وغيرهم ، وتنويه بأنهما شاكران نعمته .
ولأجل ذلك عطف قولهما هذا بالواو دُون الفاء لأنه ليس حمداً لمجرد الشكر على إيتاءِ العلم .
والظاهر أن حكاية قوليهما وقعت بالمعنى ، بأن قال كل واحد منهما : الحمد لله الذي فضلني ، فلما حكي القولان جمع ضمير المتكلم ، ويجوز أن يكون كل واحد شكر الله على منحه ومنححِ قريبه ، على أنه يكثر استعمال ضمير المتكلم المشارَك لا لقصد التعظيم بل لإخفاء المتكلم نفسه بقدر الإمكان تواضعاً كما قال سليمان عقب هذا { عُلِّمنا منطقَ الطير وأوتينا من كل شيء } [ النمل : 16 ] . وجعلا تفضيلهما على كثير من المؤمنين دون جميع المؤمنين ؛ إمَّا لأنهما أرادا بالعباد المؤمنين كلّ مَن ثبت له هذا الوصف من الماضين وفيهم موسى وهارون ، وكثير من الأفضل والمُساوي ، وإمّا لأنهما اقتصدا في العبارة إذ لم يحيطا بمن ناله التفضيل ، وإما لأنهما أرادا بالعباد أهلَ عصرهما فعبَّرا ب { كثير من عباده } تواضعاً لله . ثم إن كان قولهما هذا جهراً وهو الظاهر كان حجة عَلى أنه يجوز للعالم أن يذكر مرتبته في العلم لفوائد شرعية ترجع إلى أن يَحْذر الناس من الاغترار بمن ليست له أهلية من أهل الدعوى الكاذبة والجعجعة الجالبة ، وهذا حكم يستنبط من الآية لأن شرع من قبلنا شرع لنا ، وإن قالاه في سرهما لم يكن فيه هذه الحجة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد آتينا} يعني: أعطينا {داود وسليمان علما} بالقضاء، وبكلام الطير، وبكلام الدواب...
{وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} يعني: بالقضاء والنبوة، والكتاب، وكلام البهائم، والملك الذي أعطاهما الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيمَانُ عِلْما" وذلك علم كلام الطير والدوابّ، وغير ذلك مما خصهم الله بعلمه.
"وَقالا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي فَضّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ "يقول جلّ ثناؤه: وقال داود وسليمان: الحمد لله الذي فضلنا بما خصنا به من العلم الذي آتاناه دون سائر خلقه من بني آدم في زماننا هذا على كثير من عباده المؤمنين به في دهرنا هذا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عِلْمًا}: طائفة من العلم، أو علماً سنياً غزيراً. فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا}. والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علماً. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه: أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير.
وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم، وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباد الله، كما قال: {والذين أُوتُواْ العلم درجات} [المجادلة: 11]، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ورثةُ الأنبياءِ» إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر: كلّ الناسِ أفقهَ منْ عمر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ترد هذ الإشارة إلى داود، وهذه القصة عن سليمان بعد تلك الحلقة من قصة موسى -عليهم السلام- وهم من أنبياء بني إسرائيل، في السورة التي تبدأ بالحديث عن القرآن؛ ويجيء فيها: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل:أكثر الذي هم فيه يختلفون).. وقصة سليمان -عليه السلام- في هذه السورة مبسوطة بتوسع أكثر منها في أية سورة أخرى. وإن كانت تختص بحلقة واحدة من حلقات حياته. حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ. يمهد لها السياق بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير وإعطائه من كل شيء. وشكره لله على فضله المبين. ثم مشهد موكبه من الجن والإنس والطير، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب، وإدراك سليمان لمقالة النملة وشكره لربه على فضله، وإدراكه أن النعمة ابتلاء، وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء.
ومناسبه ورود هذا القصص إجمالا في هذه السورة ما سبق بيانه من افتتاح السورة بحديث عن القرآن، وتقرير أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. وقصص موسى وداود وسليمان من أهم الحلقات فى تاريخ بني إسرائيل. أما مناسبة هذه الحلقة ومقدماتها لموضوع هذه السورة فتبدو في عدة مواضع منها ومن السورة: التركيز في جو السورة وظلالها على العلم -كما أسلفنا في أوائلها – والإشارة الأولى في قصة داود وسليمان هي: (ولقد آتينا داود وسليمان علما) وإعلان سليمان لنعمة الله عليه يبدأ بالإشارة إلى تعليمه منطق الطير: (وقال:يا أيها الناس علمنا منطق الطير). وعذر الهدهد عن غيبته في ثنايا القصة يبدأ بقوله: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين). والذي عنده (علم) من الكتاب هو الذي يأتي بعرش الملكة في غمضة عين.. وافتتاح السورة عن القرآن كتاب الله المبين إلى المشركين. وهم يتلقونه بالتكذيب. وفي القصة كتاب سليمان تتلقاه ملكة سبأ، فما تلبث طويلا حتى تأتي هي وقومها مسلمين. لما رأته من القوى المسخرة لسليمان من الجن والإنس والطير. والله هو الذي سخر لسليمان ما سخر، وهو القاهر فوق عباده وهو رب العرش العظيم. وفي السورة استعراض لنعم الله على العباد، وآياته في الكون، واستخلافه للناس وهم يجحدون بآيات الله، ولا يشكرونه. وفي القصة نموذج للعبد الشاكر، الذي يسأل ربه أن يوفقه إلى شكر نعمته عليه؛ المتدبر لآيات الله الذي لا يغفل عنها، ولا تبطره النعمة، ولا تطغيه القوة...
ولقد آتينا داود وسليمان علما. وقالا: الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين). هذه هي إشارة البدء في القصة وإعلان الافتتاح. خبر تقريري عن أبرز النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان- عليهما السلام نعمة العلم.
فأما عن داود فقد ورد تفصيل ما آتاه الله من العلم في سور أخرى. منها تعليمه الترتيل بمقاطع الزبور، ترتيلا يتجاوب به الكون من حوله، فتؤوب الجبال معه والطير، لحلاوة صوته، وحرارة نبراته، واستغراقه في مناجاة ربه، وتجرده من العوائق والحواجز التي تفصل بينه وبين ذرات هذا الوجود. ومنها تعليمه صناعة الزرد وعدة الحرب، وتطويع الحديد له، ليصوغ منه من هذا ما يشاء. ومنها تعليمه القضاء بين الناس، مما شاركه فيه سليمان.
وأما سليمان ففي هذه السورة تفصيل ما علمه الله من منطق الطير وما إليه؛ بالإضافة إلى ما ذكر في سور أخرى من تعليمه القضاء، وتوجيه الرياح المسخرة له بأمر الله. تبدأ القصة بتلك الإشارة: (ولقد آتينا داود وسليمان علما) وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم، والحمد لله الذي فضلهما بها على كثير من عباده المؤمنين. فتبرز قيمة العلم، وعظمة المنة به من الله على العباد، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين. ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار. وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره، وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه، وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه. فلا يكون العلم مبعدا لصاحبه عن الله، ولا منسيا له إياه. وهو بعض مننه وعطاياه..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجعلا تفضيلهما على كثير من المؤمنين دون جميع المؤمنين؛ إمَّا لأنهما أرادا بالعباد المؤمنين كلّ مَن ثبت له هذا الوصف من الماضين وفيهم موسى وهارون، وكثير من الأفضل والمُساوي، وإمّا لأنهما اقتصدا في العبارة إذ لم يحيطا بمن ناله التفضيل، وإما لأنهما أرادا بالعباد أهلَ عصرهما فعبَّرا ب {كثير من عباده} تواضعاً لله. ثم إن كان قولهما هذا جهراً وهو الظاهر كان حجة عَلى أنه يجوز للعالم أن يذكر مرتبته في العلم لفوائد شرعية ترجع إلى أن يَحْذر الناس من الاغترار بمن ليست له أهلية من أهل الدعوى الكاذبة والجعجعة الجالبة، وهذا حكم يستنبط من الآية لأن شرع من قبلنا شرع لنا، وإن قالاه في سرهما لم يكن فيه هذه الحجة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} أكد الله سبحانه أنه أعطى داوود وابنه سليمان علما، باللام وبقد فإنها تدل على التحقيق، ونكّر سبحانه {علما} للإشارة إلى أنه علم عظيم لا يقدر قدره، فقد أعطى داوود علم القيادة، وعلم إدارة الدولة، وعلم صناعة أدوات،كما قال تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم (80)} [الأنبياء] وأعطى سليمان علم منطق الطير، كما ستشير الآيات لذلك، وعلم الابن ثمرته تعود على الأب، فهو شخصه ممتد، وكسبه كسب له كما هو مقرر بحكم الفطرة، ولذلك حمدا الله على ما آتاهما من فضله: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} وكان التفضيل أولا بالعلم، وثانيا بالسلطان والحكم، وهذا يستوجب الحمد والشكر لا الظلم والطغيان، ونقول إن الله أعطاهما الذي أعطاه، وهو نعمة، وتكليف، فالمؤمن يحسب النعمة تكليفا، والتكليف بالنسبة للحكام العدل
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
"وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن قصة سليمان وما صاحب ملكه من الوقائع التي برزت في زمانه وبهر الإنسان، مبينا كيف سخر الله تعالى لسليمان، من الوسائل المعتادة، وغيرها من الوسائل الخارقة للعادة، ما لم يسخره لأحد من قبله، عسى أن يؤمن بنو إسرائيل ـ على ما هم عليه من شك وعناد ـ برسالته، ويجمعوا كلمتهم بعد الفرقة والشتات ـ على طاعته، وكيف آتاه الله ملكا فردا من نوعه لم يؤت مثله لأحد من بعده، عسى ان يعترف بنو إسرائيل بنعمة الله عليهم، ولا ينقضوا الميثاق الذي واثقهم عليه منذ أرسل موسى الكليم إليهم، لكنهم بالرغم من ذلك فضلوا الفرقة على الوحدة، والانحراف على الاستقامة، ولم يمض زمن قصير بعد موت سليمان حتى أخذوا يعضون بنان الندامة، فتفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وانهار ملكهم، وأصبح ملك سليمان العتيد وهيكله الجديد في خبر كان، وأصبح بنو إسرائيل أوزاعا وأشتاتا في كل مكان، وكانت جلوتهم الكبرى بعد جلوتهم الصغرى، مصداقا لقوله تعالى في سورة إبراهيم وهو يخاطب بني إسرائيل: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتكم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [الآية: 7]. وليعتبر المؤمنون والكافرون بما تعرض له بنو إسرائيل بعد انهيار ملك سليمان من النكبات والنقم، عرض كتاب الله في الآيات التالية ما أنعم به عليهم في عهد ملكه القصير من جليل النعم، حتى يقارن الجميع بين حالتي السخط والرضا، ويستخرجوا العبرة مما مضى، فبضدها تتميز الأشياء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الطريف، أن القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم» التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية، فيقول: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً). وبالرغم من أن كثيراً من المفسّرين أجهدوا أنفسهم وأتعبوها ليعرفوا هذا العلم الذي أوتيه سليمانُ وداودُ، لأنّه جاء في الآية بصورة مغلقة.. فقال بعضهم: هو علم القضاء، بقرينة الآية (20) من سورة ص: (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) والآية (79) من سورة الأنبياء (وكلا آتينا حكماً وعلماً). وقال بعضهم: إن هذا العلم هو معرفة منطق الطير بقرينة الآية (عُلمنا منطق الطير). وقال بعضهم: «إن المراد من هذا العلم هو صنعة الدروع، بقرينة (صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم). إلاّ أن من الواضح أن العلم هنا له مفهوم واسع، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والاعتقادات المذهبية والقوانين الدينية، وكذلك علم القضاء، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية... لأنّ تأسيس حكومة إلهية على أساس العدل... وحضارة عامرة حرّة... دون الإفادة من علم واسع غير ممكن... وهكذا فإنّ القرآن يعدُّ مقام العلم لتشكيل حكومة صالحة أوّل حجر أساس لها!. وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء لله: (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين). والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم» يجري الكلام عن «الشكر» مباشرة... ليكون واضحاً أنّ كل نعمة لابدّ لها من شكر، وحقيقة الشكر هو أنّ يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله. وهذان النبيّان العظيمان (عليهما السلام) استفادا من نعمة علمهما الاستفادة القصوى في تنظيم حكومة إلهية. وقد جعل داود وسليمان معيار تفضيلهما على الآخرين «العلم» لا القدرة ولا الحكومة، وعدّا الشكر للعلم لا لغيره من المواهب، لأنّ كلّ قيمة هي من أجل العلم، وكلّ قدرة تعتمد أساسا على العلم. والجدير بالذكر أنّهما يشكران اللّه ويحمدانه لتفضيلهما ولحكومتهما على اُمّة مؤمنة.. لأنّ الحكومة على اُمّة فاسدة غير مؤمنة ليست مدعاة للفخر! وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: لم قال داود وسليمان (الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) ولم يقولا على عباده المؤمنين جميعاً، مع أنّهما كانا نبيّين، وهما أفضل أهل عصرهما؟ ولعلّ هذا التعبير رعاية لأصول الأدب والتواضع، إذ على الإنسان أن لا يرى نفسه أفضل من الجميع في أي مقام كان! أو لأنّهما كانا ينظران إلى جميع الأزمنة، ولم ينظرا إلى مقطع زمني خاص، ونعرف أن على مدى التاريخ يوجد أنبياء كانوا أفضل منهما.