{ فَإلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } على شيء من ذلكم { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } [ من عند الله ]{[427]} لقيام الدليل والمقتضي ، وانتفاء المعارض .
{ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : واعلموا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي : هو وحده المستحق للألوهية والعبادة ، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لألوهيته ، مستسلمون لعبوديته ، وفي هذه الآيات إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله أن يصده اعتراض المعترضين ، ولا قدح القادحين .
خصوصا إذا كان القدح لا مستند له ، ولا يقدح فيما دعا إليه ، وأنه لا يضيق صدره ، بل يطمئن بذلك ، ماضيا على أمره ، مقبلا على شأنه ، وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها . بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض ، على جميع المسائل والمطالب . وفيها أن هذا القرآن ، معجز بنفسه ، لا يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله ، ولا بعشر سور من مثله ، بل ولا بسورة من مثله ، لأن الأعداء البلغاء الفصحاء ، تحداهم الله بذلك ، فلم يعارضوه ، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك .
وفيها : أن مما يطلب فيه العلم ، ولا يكفي غلبة الظن ، علم القرآن ، وعلم التوحيد ، لقوله تعالى : { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
وقوله - سبحانه - { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } إرشاد لهؤلاء المشركين إلى طريق الحق والسعادة لو كانوا يعقلون ، إذ الخطاب موجه إليهم لعلهم يثوبون إلى الرشد .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الذين تحديتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن ، وأبحث لهم أن يستعينوا فى ذلك بمن شاءوا من البشر ، قل لهم : فإن لم يستجب لدعوتكم من استعنتم بهم فى الإِتيان بعشر سور من مثل القرآن .
. وهم لن يستجيبوا لكم قطعا - { فاعلموا } أيها الناس أن هذا القرآن { أُنزِلِ بِعِلْمِ الله } وحده ، وبقدرته وحدها . ولا يقدر على إنزاله بتلك الصورة أحد سواه .
واعلموا - أيضا - أنه { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } - سبحانه - فهو الإِله الحق ، الذى تعنوا له الوجوه ، وتخضع له القلوب ، وتتجه إليه النفوس بالعبادة والطاعة .
{ فَهَلْ أَنتُمْ } أيها المشركون بعد كل تلك الأدلة الواضحة الدالة على وحدانية الله ، وعلى أن هذا القرآن من عنده { مُّسْلِمُونَ } أى : داخلون فى الإِسلام ، متبعون لما جاءكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
والمراد بالعلم فى قوله { فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ . . . } : الاعتقاد الجازم البالغ نهاية اليقين ، أى فأيقنوا أن هذا القرآن ما أنزل إلا ملابس لعلم الله - تعالى - المحيط بكل شئ .
والفاء فى قوله { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } للتفريع ، والاستفهام هنا المقصود به الحض على الفعل وعدم تأخيره .
أى : فهل أنتم بعد كل هذه الأدلة على صدق ما جاءكم به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تشكون فى أن الإِسلام هو الدين الحق ؟ إن الشك فى ذلك لا يكون من عاقل ، فبادروا إلى الدخول فى الإِسلام إن كنتم من ذوى العقول التى تعقل ما يقال لها .
ويرى بعض العلماء أن الخطاب فى هذه الآية موجه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، أو إليه وحده - صلى الله عليه وسلم - وعلى سبيل التعظيم وعليه يكون المعنى :
" فإن لم يستجب لكم - أيها المؤمنون - هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، بعد أن ثبت عجزهم عن الإِتيان بما تحديثموهم به { فاعلموا } أى فازدادوا علما ويقينا وثباتا ، بأن هذا القرآن " إنما أنزل بعلم الله " الذى لا يعزب عنه شئ ، وازدادوا علما بأنه لا إله إلا هو - سبحانه - مستحق للعبادة والطاعة ، فهل أنتم بعد كل ذلك { مُّسْلِمُونَ } أى ثابتون على الإِسلام ، وملتزمون بكل أوامره ونواهيه .
ومع أننا نرى أن القولين صحيحان من حيث المعنى ، إلا أننا نفضل الرأى الأول القائل بأن الخطاب للمشركين ، لأن سياق الآيات السابقة فى شأنهم فلان يكون الخطاب لهم هنا أولى .
ولم يقدروا على افتراء عشر سور ، لأنهم عاجزون عن أن يقدموا لكم عونا في هذه المهمة المتعذرة ! وعجزتم أنتم بطبيعة الحال ، لأنكم لم تدعوهم لتستعينوا بهم إلا بعد عجزكم !
( فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) .
فهو وحده القادر على أن ينزله ، وعلم الله وحده هو الكفيل بأن ينزله على هذا النحو الذي نزل به ، متضمنا ما تضمنه من دلائل العلم الشامل بسنن الكون وأحوال البشر ، وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وما يصلح لهم في نفوسهم وفي معاشهم . . .
فهذا مستفاد كذلك من عجز آلهتكم عن تلبيتكم في تأليف عشر سور كالتي أنزلها الله . فلا بد أن يكون هناك إله واحد هو القادر وحده على تنزيل هذا القرآن .
ويعقب على هذا التقرير الذي لا مفر من الإقرار به بسؤال لا يحتمل إلا جوابا واحدا عند غير المكابرين المتعنتين . سؤال :
بعد هذا التحدي والعجز ودلالته التي لا سبيل إلى مواجهتها بغير التسليم ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِلّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاّ إِلََهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : فإن لم يستجب لكم من تدعون من دون الله إلى أن يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات ، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك ، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أُنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه ، وأن محمدا لم يفتره ، ولا يقدر أن يفتريه ، وأن لا إلهَ إلاّ هُوَ يقول : وأيقنوا أيضا أن لا معبود يستحقّ الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر ، فاخلعوا الأنداد والاَلهة وأفردوا له العبادة .
وقد قيل : إن قوله : فإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ خطاب من الله لنبيه ، كأنه قال : فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار يا محمد ، فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل بعلم الله . وذلك تأويل بعيد من المفهوم .
وقوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ يقول : فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة ، ومخلصون له العبادة بعد ثبوت الحجة عليكم ؟ وكان مجاهد يقول : عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وأنْ لا إلَهَ إلاّ هُوَ فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقيل : فإنْ لَمْ يَسْتَجُيبُوا لَكُمْ والخطاب في أوّل الكلام قد جرى لواحد ، وذلك قوله : قُلْ فَأْتُوا ولم يقل : فإن لم يستجيبوا لك على نحو ما قد بيّنا قبل في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم ، أن العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الجمع إذا كان خطابه خطاب الأتباع وجنده ، وأحيانا مخرج خطاب الواحد إذا كان في نفسه واحدا .
لهذه الآية تأويلان : أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار ؛ أي فإن لم يستجب من تدعون{[6272]} إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله ، ويأتي قوله { فهل أنتم مسلمون } متمكناً .
والثاني : أن تكون مخاطبة من الله تعالى للمؤمنين : أي فإن لم يستجب الكفار إلى ما دعوا إليه من المعارضة فاعلموا أن ذلك من عند الله ، وهذا على معنى دوموا على علمكم لأنهم كانوا عالمين بذلك . قال مجاهد : قوله تعالى : { فهل أنتم مسلمون } هو لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { بعلم الله } يحتمل معنيين :
والثاني : أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب ، فكأنه أراد المعلومات له وقوله : { فهل أنتم مسلمون } تقرير .