ثم يعقب - سبحانه - على ذلك ببيان حال المؤمنين الصادقين فيقول : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } أى : هذا هو حال المنافقين ، وهذا هو الحكم الذى يناسبهم ، أما الذين اهتدوا إلى الحق ، واستجابوا له ، وخالطت بشاشته قلوبهم ، فهم الذين زادهم الله - تعالى - هداية على هدايتهم .
وزادهم علما وبصيرة وفقها فى الدين ، ومنحهم بفضله وإحسانه خلق التقوى والخشية منه ، والطاعة لأمره ، وكافأهم على ذلك بما يستحقون من ثواب جزيل .
ذلك حال المنافقين ، فأما حال المهتدين فهو على النقيض :
( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) :
وترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر . فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء ، فكافأهم الله بزيادة الهدى ، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل : ( وآتاهم تقواهم ) . . والتقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفا من هيبة الله ، شاعرا برقابته ، خائفا من غضبه ، متطلعا إلى رضاه ، متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها . . هذه الحساسية المرهفة هي التقوى . . وهي مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله .
والهدى والتقوى والحساسية حالة تقابل حالة النفاق والانطماس والغفلة في الآية السابقة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ * فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنّىَ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : وأما الذين وفّقهم الله لاتباع الحقّ ، وشرح صدورهم للإيمان به وبرسوله من الذين استمعوا إليك يا محمد ، فإن ما تلوته عليهم ، وسمعوه منك زَادَهُمْ هُدىً يقول : زادهم الله بذلك إيمانا إلى إيمانهم ، وبيانا لحقيقة ما جئتهم به من عند الله إلى البيان الذي كان عندهم . وقد ذُكر أن الذي تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن ، فقال أهل النفاق منهم لأهل الإيمان ، ماذا قال آنفا ، وزاد الله أهل الهدى منهم هدىً ، كان بعض ما أنزل الله من القرآن ينسخ بعض ما قد كان الحكم مضى به قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ اهْتَدوْا زَادَهُمْ هُدىً وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ قال : لما أنزل الله القرآن آمنوا به ، فكان هدى ، فلما تبين الناسخ والمنسوخ زادهم هدى .
وقوله : وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ يقول تعالى ذكره : وأعطى الله هؤلاء المهتدين تقواهم ، وذلك استعماله إياهم تقواهم إياه .
لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } [ محمد : 16 ] عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق ، وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم .
وقوله تعالى : { زادهم هدى } يحتمل أن يكون الفاعل في { زادهم } الله تعالى ، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة ، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى ، ويحتمل أن يكون الفاعل في : { زادهم } قول المنافقين واضطرابهم ، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه ، ويتزيد بصيرة في دينه ، فكأنه قال : المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى ، أي كانت الزيادة بسببه ، فأسند الفعل إليه ، وقالت فرقة : إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى ، آمنوا بمحمد فالفاعل في : { زادهم } محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه . وقوله على هذا القول : { اهتدوا } يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم { زادهم } محمد { هدى } حين آمنوا به . والفاعل في { آتاهم } يتصرف بحسب التأويلات المذكورة ، وأقواها أن الفاعل الله تعالى . { وآتاهم } معناه : أعطاهم ، أي جعلهم متقين له ، فالتقدير : تقواهم إياه . وقرأ الأعمش : «وأنطاهم تقواهم » ، وهي بمعنى أعطاهم ، ورواها محمد بن طلحة عن أبيه . وهي في مصحف عبد الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأما الذين وفّقهم الله لاتباع الحقّ، وشرح صدورهم للإيمان به وبرسوله من الذين استمعوا إليك يا محمد، فإن ما تلوته عليهم، وسمعوه منك "زَادَهُمْ هُدىً "يقول: زادهم الله بذلك إيمانا إلى إيمانهم، وبيانا لحقيقة ما جئتهم به من عند الله إلى البيان الذي كان عندهم...
وقوله: "وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ" يقول تعالى ذكره: وأعطى الله هؤلاء المهتدين تقواهم، وذلك استعماله إياهم تقواهم إياه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} يحتمل قوله: {وآتاهم تقواهم} أي أعطاهم ما اتقوا مخالفة أمره. ويحتمل {وآتاهم تقواهم} أي يُوفّقهم ما يتّقون مخالفة أمره من بعد في المُستأنف. وقال بعضهم: أي أعطاهم الله ثواب أعمالهم في الآخرة؛ يقول: كل ما جاء من الله، وأخذوا به {زادهم هدى وآتاهم تقواهم} أي أجرهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والوجه في إضافة الزيادة في الهدى إلى الله هو ما يفعله تعالى بهم من الألطاف التي تقوي دواعيهم إلى التمسك بما عرفوه من الحق وتصرفهم عن العدول إلى خلافه. ويكون ذلك تأكيدا لما عملوه من الحق وصارفا لهم عن تقليد الرؤساء من غير حجة ولا دلالة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{اهْتَدَوْا}: بأنواع المجاهدات، "فزادهم هدًى ": بأنوار المشاهدات...
{اهْتَدَوْاْ}: بتأمل البرهان، "فزادهم هدى "بَرْوح البيان.
{اهْتَدَوْاْ}: بعلم اليقين،" فزادهم هدًى ": بحقِّ اليقين.
{اهْتَدَوْاْ}: بآداب المناجاة، "فزادهم هدًى ": بالنجاة ورَفْعِ الدرجات.
{اهْتَدَوْاْ}: إلى ما فيه من الحقِّ ولم يختلفوا في أنه الحق،" فزادهم هدًى "بالاستقامة على طرق الحق...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{زادهم هدى} يحتمل أن يكون الفاعل في {زادهم} الله تعالى، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى، ويحتمل أن يكون الفاعل في: {زادهم} قول المنافقين واضطرابهم، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه، ويتزيد بصيرة في دينه، فكأنه قال: المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى، أي كانت الزيادة بسببه، فأسند الفعل إليه،... وقالت فرقة: إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى، آمنوا بمحمد فالفاعل في: {زادهم} محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه. وقوله على هذا القول: {اهتدوا} يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم {زادهم} محمد {هدى} حين آمنوا به. والفاعل في {آتاهم} يتصرف بحسب التأويلات المذكورة، وأقواها أن الفاعل الله تعالى. {وآتاهم} معناه: أعطاهم، أي جعلهم متقين له، فالتقدير: تقواهم إياه...
{زادهم هدى} معناه كانوا مهتدين فزادهم على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ويحتمل أن يقال قوله {زادهم هدى} إشارة إلى العلم...
.أفاد أنهم ازداد علمهم، وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فقال آتاهم خشيتهم التي يفيدها العلم. والمعنى الرابع: تقواهم من يوم القيامة...
.آتاهم تقواهم، التقوى التي تليق بالمؤمن، وهي التقوى التي لا يخاف معها لومة لائم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: والذين قصدوا الهداية، وفقهم الله لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها وزادهم منها، {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي: ألهمهم رشدهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والذين اهتدوا} أي اجتهدوا باستماعهم منك في مطاوعة داعي الفطرة الأولى إلى الوقوع على الهدى بالصدق في الإيمان والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات {زادهم} أي الله الذي طبع على قلوب الجهلة {هدى} بأن شرح صدورهم ونورها بأنوار المشاهدات فصارت أوعية للحكمة "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم {وآتاهم تقواهم} أي بين لهم ما هو أهل لأن يحذر ووفقهم لاجتنابه مخالفة للهوى، فهم القسم الأول من آية توطئة المثل {الذين هم على بينة من ربهم} ومعنى الإضافة أنه آتى كلاًّ منهم منها بحسب ما يقتضيه حاله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم):
وترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر. فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء، فكافأهم الله بزيادة الهدى، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل: (وآتاهم تقواهم).. والتقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفا من هيبة الله، شاعرا برقابته، خائفا من غضبه، متطلعا إلى رضاه، متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها.. هذه الحساسية المرهفة هي التقوى.. وهي مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده، حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله.
والهدى والتقوى والحساسية حالة تقابل حالة النفاق والانطماس والغفلة في الآية السابقة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: والذين شرح الله صدرهم للإيمان فاهتدوا لطَفَ الله بهم فزادهم هدى وأرسخ الإيمان في قلوبهم ووفقهم للتقوى، فاتقوا وغالبوا أهواءهم. وإيتاء التقوى مستعار لتيسير أسبابها إذ التقوى معنى نفساني، والإيتاء يتعدى حقيقة للذوات. وإضافة التقوَى إلى ضمير {الذين اهتدوا} إيماء إلى أنهم عرفوا بها واختصت بهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ} بهدى الله، وساروا في النور المنطلق من أفق الإيمان، وعملوا على تنمية غرس الهدى في عقولهم ومشاعرهم، بالفكر والبحث والتخطيط {زَادَهُمْ هُدًى} لأن الممارسة الواعية لكل مفردات الهدى الحيّة، وإدارة الفكر فيها، تمنح المضمون حيويّةً وامتداداً وزيادةً في النموّ. وهكذا يزيدهم الله هدًى بذلك، وبما يرزقهم من ألطافه الخفية، لأن الله يرزق عباده المؤمنين ألطافه، كما يرزقهم من عطاياه المادية، جزاءً لهم على ما عملوه وما فكروا فيه. {وَآتاهُمْ تَقوَاهُمْ} لأن الهدى كلما امتد في الحياة من خلال وضوح الرؤية للفكرة وللخط وللطريق، كلما تحوّل إلى حالةٍ في القلب والروح والضمير، تتعمق في الشخصية لتحتوي كل أوضاعها وقضاياها، بحيث ينطلق الانضباط على الخط في الممارسة من الانضباط في الفكر والعقيدة، لتكون هناك تقوى في الفكر وفي العمل...