مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدٗى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ} (17)

قوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } .

لما بين الله تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع ، ويستعيد ولا يستفيد ، بين أن حال المؤمن المهتدي بخلافه ، فإنه يستمع فيفهم ، ويعمل بما يعلم ، والمنافق يستعيد ، والمهتدي يفسر ويعيد ، وفيه فائدتان : ( إحداهما ) ما ذكرنا من بيان التباين بين الفريقين ، ( وثانيهما ) قطع عذر المنافق وإيضاح كونه مذموم الطريقة ، فإنه لو قال ما فهمته لغموضه وكونه معمى ، يرد عليه ويقول ليس كذلك ، فإن المهتدي فهم واستنبط لوازمه وتوابعه ، فذلك لعماء القلوب ، لا لخفاء المطلوب وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما الفاعل للزيادة في قوله { زادهم } ؟ نقول فيه وجوه ( الأول ) المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الله وكلام الرسول يدل عليه قوله { ومنهم من يستمع إليك } فإنه يدل على مسموع ، والمقصود بيان التباين بين الفريقين ، فكأنه قال : هم لم يفهموه ، وهؤلاء فهموه . ( والثاني ) أن الله تعالى زادهم ويدل عليه قوله تعالى : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } وكأنه تعالى طبع على قلوبهم فزادهم عمى ، والمهتدي زاده هدى . ( والثالث ) استهزاء المنافق زاد المهتدي هدى ، ووجهه أنه تعالى لما قال : { واتبعوا أهواءهم } قال : { والذين اهتدوا زادهم } اتباعهم الهدى هدى ، فإنهم استقبحوا فعلهم فاجتنبوه .

المسألة الثانية : ما معنى قوله { وآتاهم تقواهم } ؟ نقول فيه وجوه منقولة ومستنبطة ، أما المنقولة فنقول : قيل فيه إن المراد آتاهم ثواب تقواهم ، وقيل آتاهم نفس تقواهم من غير إضمار ، يعني بين لهم التقوى ، وقيل آتاهم توفيق العمل بما علموا . وأما المستنبط فنقول : يحتمل أن يكون المراد به بيان حال المستمعين للقرآن الفاهمين لمعانيه المفسرين له بيانا لغاية الخلاف بين المنافق ، فإنه استمع ولم يفهمه ، واستعاد ولم يعلمه ، والمهتدي فإنه علمه وبينه لغيره ، ويدل عليه قوله تعالى : { زادهم هدى } ولم يقل اهتداء ، والهدى مصدر من هدى ، قال الله تعالى : { فبهداهم اقتده } أي خذ بما هدوا واهتد كما هدوا ، وعلى هذا فقوله تعالى : { وآتاهم تقواهم } معناه جنبهم عن القول في القرآن بغير برهان ، وحملهم على الاتقاء من التفسير بالرأي ، وعلى هذا فقوله { زادهم هدى } معناه كانوا مهتدين فزادهم على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ويحتمل أن يقال قوله { زادهم هدى } إشارة إلى العلم { وآتاهم تقواهم } إشارة إلى الأخذ بالاحتياط فيما لم يعلموه ، وهو مستنبط من قوله تعالى : { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وقوله { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } .

المعنى الثالث : يحتمل أن يكون المراد بيان أن المخلص على خطر فهو أخشى من غيره ، وتحقيقه هو أنه لما قال : { زادهم هدى } أفاد أنهم ازداد علمهم ، وقال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فقال آتاهم خشيتهم التي يفيدها العلم .

والمعنى الرابع : تقواهم من يوم القيامة كما قال تعالى : { يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده } ويدل عليه قوله تعالى : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } كأن ذكر الساعة عقيب التقوى يدل عليه .

المعنى الخامس : آتاهم تقواهم ، التقوى التي تليق بالمؤمن ، وهي التقوى التي لا يخاف معها لومة لائم .

ثم قال تعالى : { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله } وكذلك قوله تعالى : { يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } وهذا الوجه مناسب لأن الآية لبيان تباين الفريقين ، وهذا يحقق ذلك ، من حيث إن المنافق كان يخشى الناس وهم الفريقان ، المؤمنون والكافرون فكان يتردد بينهما ويرضي الفريقين ويسخط الله فقال الله تعالى المؤمن المهتدي بخلاف المنافق حيث علم ذاك ولم يعلم ذلك واتقى الله لا غير ، واتقى ذلك غير الله .