وبعد أن كشف لهم سوء حالهم ، وفرط جهالاتهم ، بين لهم فساد ما طلبوه في ذاته ، وقبح عاقبة من أرادوا تقليدهم ، فقال لهم بأسلوب الاستئناف المفيد للتعليل { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } متبر : من التتبير بمعنى الإهلاك أو التكسير والتحطيم يقال : تبره يتبره وتبره أى أهلكه ودمره .
أى : إن هؤلاء الذين تبغون تقليدهم في عبادة الأوثان ، محكوم على ما هم فيه بالدمار ، ومقضى على ما يعملونه من عبادة الأصنام بالاضمحلال والزوال لأن دين التوحيد سيظهر في هذه الديار ، وستصير العبادة لله الواحد القهار .
وبهذا الرد يكون موسى - عليه السلام - قد كشف لقومه عن سوء ما يطلبون ، وصرح لهم بأن مصير ما يبغونه إلى الهلاك والتدمير .
قال الإمام الرازى : ( والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من عبادة ذلك العجل نفع ولا دفع ضرر ، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سببا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها ، فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعلق قلبه بغيره ، ويصير ذلك التعلق سببا لإعراض القلب عن ذكره تعالى .
وإذا ثبت هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل وضائع . وسعى في تحصيل ضد هذا الشىء ونقيضه ، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله - تعالى - في القلب . والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفته عن القلب ، فكان هذا ضد الغرض ونقيضا للمطلوب - والله أعلم - ) .
ويمضي موسى - عليه السلام - يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون ، بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم ، فأرادوا أن يقلدوهم :
( إن هؤلاء متبر ما هم فيه ، وباطل ما كانوا يعملون ) . .
إن ما هم فيه من شرك ، وعكوف على الآلهة ، وحياة تقوم على هذا الشرك ، وتتعدد فيها الأرباب ، ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة ، ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط . . إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة . . إن هذا كله هالك باطل ؛ ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف !
{ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ } أي : هالك { وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير [ رحمه الله ]{[12085]} تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعَقِيل ، ومعمر كلهم ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي : أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، قال : وكان للكفار سدرة{[12086]} يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها : " ذات أنواط " ، قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : " قلتم والذي نفسي بيده ، كما قال قوم موسى لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }{[12087]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان الدِّيلي ، عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلت : يا نبي الله{[12088]} اجعل لنا هذه " ذات أنواط " ، كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ، ويعكفون حولها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ] }{[12089]} إنكم تركبون{[12090]} سنن من قبلكم " {[12091]}
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه عن جده مرفوعا{[12092]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ هََؤُلآءِ مُتَبّرٌ مّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل موسى لقومه من بني إسرائيل ، يقول تعالى ذكره قال لهم موسى : إن هؤلاء العكوف على هذه الأصنام ، الله مهلك ما هم فيه من العمل ومفسده ، ومخسرهم فيه بإثابته إياهم عليه العذاب المهين ، وباطل ما كانوا يعملون من عبادتهم إياها فمضمحلّ لأنه غير نافع عند مجيء أمر الله وحلوله بساحتهم ، ولا مدافع عنهم بأس الله إذا نزل بهم ، ولا منقذهم من عذابه إذا عذّبهم في القيامة ، فهو في معنى ما لم يكن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قالا جميعا : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ هَؤُلاءِ مُتَبّرٌ ما هُمْ فِيهِ يقول : مهلك ما هم فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ هَؤُلاءِ مُتَبّرٌ ما هُمْ فِيهِ يقول : خسران .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ هَؤُلاءِ مُتَبّرٌ ما هُمْ فِيهِ وبَاطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال : هذا كله واحد ، كهيئة «غفور رحيم » ، «عفوّ غفور » . قال : والعرب تقول : إنه البائس المتبر ، وإنه البائس المخسر .
{ إن هؤلاء } إشارة إلى القوم . { مُتبّر } مكسر مدمر . { ما هم فيه } يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضا { وباطل } مضمحل . { ما كانوا يعملون } من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى ، وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع { هؤلاء } اسم { إن } والإخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان ، وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لأن للتنبيه على أن الدمار لا حق لما هم فيه لا محالة ، وأن الإحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا .